نجم الشيخ داغر
عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان).
إنَّ تأملنا بقوله عليه السلام "ربيع القرآن" يمكن أنْ نصل الى عدة معان، منها انه كما تزهر الورود في موسم الربيع وتزين الوجود بألوانها الزاهية وأريجها الأخاذ، كذلك القرآن الكريم نزل في هذا الشهر وأنار السموات والأرض {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي اُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (البقرة/185).
ويمكن أنْ يقال أيضاً إنَّ لشهر رمضان خصوصية روحية تتمثل بالقدرة على تطهير الذات من عوالق الغريزة وآثام الشهوات، لذا فإنَّ الإنسان يصبح مهيأ لأنْ تشرق آيات الله على فكره وقلبه، ويشعر أنَّه المخاطب في الأوامر والنواهي القرآنية بشكل مباشر، بعد أنْ حرث أرض نفسه ورمى فيها بذور الطاعة، فأزهرت قرباً وحباً وطهارة روحيَّة ونفسيَّة، حينها ولأول مرة يكون مصداقاً لقوله تعالى (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب) الزمر (18).
ومن أجل الوصول الى ما ذكرناه أعلاه، بعد إفراغ النفس من انشغالاتها الدنيويَّة، لا بُدَّ من اتباع مفاتيح القرآن نفسه والرجوع الى أهل الذكر لمعرفة كيفيَّة تفعيل المعارف الحقة في نفوسنا، وهل تكفي قراءة كتاب الله لنيل ذلك، أم لا بُدَّ من قراءة وتدبر؟.
يقول الإمام الصادق عليه السلام: "إِنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ الله أَوْصِنِي فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: فَهَلْ أَنْتَ مُسْتَوْصٍ، إِنْ أَنَا أَوْصَيْتُكَ! حَتَّى قَالَ لَهُ ذَلِكَ ثَلَاثاً وَفِي كُلِّهَا يَقُولُ لَهُ الرَّجُلُ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ الله. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: فَإِنِّي أُوصِيكَ، إِذَا أَنْتَ هَمَمْتَ بِأَمْرٍ فَتَدَبَّرْ عَاقِبَتَهُ،, فَإِنْ يَكُ رُشْداً فَامْضِهِ، وَإِنْ يَكُ غَيّاً فَانْتَهِ عَنْهُ".
وهكذا القرآن نفسه يقول ويؤكد أنَّ الهدف من نزوله هو أنْ يتدبرَ الناس آياته (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) ص 29، ويقول أيضاً (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ) محمد 24، والتدبر هو أخْذ الشيء بعد الشيء، وهو في مورد الآية: التأمل في الآية عقيب الآية لمعرفة معانيها ومقاصدها.
ولعلَّ ما ورد في إرشاد الديلمي عن الصادق عليه السلام، يغنينا عن شرح المزيد ويوضح المراد بأجزل عبارة (في قوله: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته، قال: يرتلون آياته ويتفقهون به ويعملون بأحكامه، ويرجون وعده ويخافون وعيده، ويعتبرون بقصصه، ويأتمرون بأوامره، وينتهون بنواهيه، ما هو والله حفظ آياته، ودرس حروفه، وتلاوة سورة، ودرس أعشاره وأخماسه، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده، وإنما هو تدبر آياته والعمل بأحكامه، قال الله تعالى: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته).
وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قول الله عز وجل: يتلونه حق تلاوته قال عليه السلام الوقوف عند الجنة والنار. والمراد به التدبر.
وورد عن أمير المؤمنين عليه السلام (.. ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفكر).
من هنا، لا بُدَّ من التنبيه الى الخطأ الكبير الذي قد يقع به الكثير من المسلمين في هذا الشهر الفضيل، وهو الاقتصار على قراءة القرآن من أجل ختمه فقط، ويكون الهدف الوصول الى نهاية السورة بأسرع وقت، نعم لا نقول إنَّ القراءة ليس فيها أجر، وإنما الخوف كل الخوف أنْ نكون مصداقاً لقول النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): كم من قارئ القرآن والقرآن يلعنه.
وهذا يتحق إنْ قرأناه من دون تدبرٍ والوقوف على معانيه ومقاصده والالتزام بأوامره ونواهيه.