جواد علي كسار
الأديان مصابيح تصدر من مشكاة نور واحدة. وقد شاءت إرادة الله سبحانه منذ أن سكن آدم الأرض، أن يتجه الناس إلى مركز في الأرض يُسمى القبلة، هو مكة: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران: 96). ثمّ جعل ّالله سبحانه بيت المقدس قبلةً لإبراهيم، وأمره في الوقت نفسه أن يجدّد بناء الكعبة.
عندما بعث الله رسوله بالإسلام أمره أن يتّجه إلى قبلة جدّه إبراهيم طوال وجوده في مكة، معها بضعة أشهر بعد هجرته إلى المدينة، ما دفع اليهود إلى إيذاء المسلمين بإشاعات مكثفة، قوامها: لستم على شيء، وأنتم تبعٌ لنا، وإلا لما صليتم إلى قبلتنا؛ أي بيت المقدس! .
الخلل واضح في هذا المنطق، فقد أخرج اليهود القبلة من مفهومها العبادي، وأنها دالة مكانية لتوجّه العباد إلى خالقهم؛ إلى دالةٍ عنصرية، عندما جعلوا بيت المقدس قبلة قومية، وتعصّبوا لها حتى فضلوها على الكعبة، والكعبة أقدم منها، وهي أول بيت بنصّ القرآن. نقرأ لزرارة بن أعين، قوله: كنتُ قاعداً إلى جنب الإمام الباقر وهو محتبٍ مستقبل الكعبة، فقال عليه السلام: أما إن النظر إليها عبادة. فجاءه رجل يُقال له عاصم بن عمر، فقال لأبي جعفر: إن كعب الأحبار كان يقول: إن الكعبة تسجد لبيت المقدس في كلّ غداة! .
سأل الإمامُ الرجلَ: فما تقول فيما قال كعب؟ أجاب: صدق؛ القول ما قال كعب! فقال الإمام الباقر: كذبت، وكذب كعب الأحبار معك، وغضب! ، يعلّق زرارة على ردّ الإمام الباقر، على هذا الرجل الذي استخفّ بالكعبة: ما رأيته استقبل أحداً بقولِ «كذِبت» غيره! .
ضمن مناخات أول الدعوة في مكة وبدء حياة المسلمين في المدينة بعد هجرتهم، انطلق الجهاز الدعائي لليهود يعيّر المسلمين ويعيب عليهم اتجاههم في الصلاة تلقاء بيت المقدس، مع أنها قبلة إبراهيم وليست قبلة اليهود، كما تتبجّح اليهود بذلك.
ضاق ذلك على المسلمين ونظرات اليهود وتعليقاتهم تطاردهم يومياً عند كلّ صلاة، حتى اغتمّ رسول الله من ذلك غمّاً شديداً، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء، ينتظر من ربّه أمراً. فلما أصبح وحضر وقت صلاة الظهر، وقد كان في مسجد بني سالم قد صلى من الظهر ركعتين، نزل عليه جبريل فأخذ بعضديه وحوّله إلى الكعبة، وأنزل عليه: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ (البقرة: 144) لتكون هذه الصلاة قد توزّعت إلى قبلتين؛ ركعتان إلى بيت المقدس، وركعتان إلى الكعبة.
لقد شاع الخبر بين المسلمين فبثّ فيهم السرور والبهجة، وتحوّلوا من فورهم إلى مكة، وكان من بين ذلك مسجداً في المدينة صلى أهله ركعتين إلى بيت المقدس، فلما بلغهم الخبر استداروا في تتمة الصلاة صوب الكعبة، فصار اسمه من وقتذاك حتى الآن، مسجد القبلتين، هو الذي يزوره زوّار المدينة من الحجاج والعمار، ويتبركون بالصلاة فيه.