ابتكار علمي جديد لمواجهة الاحتباس الحراري

بانوراما 2025/03/10
...

 ساره رضا 

 ترجمة: أنيس الصفار 


تخزن محيطات العالم كميات هائلة من ثاني أوكسيد الكاربون، بيد أن مجموعة متنامية الحجم من العلماء والشركات أعلنت مؤخراً بأنها قد توصلت إلى طريقة لزيادة قدرة هذه المحيطات على التخزين من خلال تلاعب بسيط بالتركيب الكيميائي لمياهها. تتضمن هذه الطريقة، المعروفة بمصطلح "رفع قلوية مياه المحيطات"، إذابة صخور معينة في مياه البحر تساعد على خفض حموضتها، وبالتالي رفع قلويتها وقدرتها على امتصاص مزيد من ثاني أوكسيد الكاربون.

كان الباحثون على مدى السنوات الأخيرة يدرسون إمكانيات تطبيق هذه التقنية، لكن شركتين ناشئتين على الأقل باشرتا العمل بها فعلياً خلال الشهرين الأخيرين بمحاذاة سواحل المحيطين الأطلسي والهادئ. الشركة الأولى هي "بلانيتري"، ومقرها "نوفا سكوتيا"، وقد تمكنت من إزالة 138 طناً من الكاربون خلال شهر كانون الأول من العام الماضي لصالح "شوبيفاي" و"سترايب". أما الشركة الثانية فهي "إيب كاربون"، التي تدير موقعاً صغيراً في واشنطن قادراً على إزالة ما يصل إلى 100 طن من الكاربون سنوياً، وقد تعهدت خلال شهر تشرين الأول الماضي بتخليص الغلاف الجوي من 350 ألف طن من الكاربون على امتداد العقد المقبل لصالح مايكروسوفت.

يقول مؤيدو هذه التقنية إنها واحدة من أهم الطرق الواعدة لإزالة الكاربون من الجو، ويقول عنها الخبراء إنها ستكون ضرورية لتحقيق الأهداف المناخية، إلى جانب كل التوجهات الأخرى التي يشهدها العالم لخفض الانبعاثات الكاربونية. 

لكن، ومن أجل إحداث تأثير ملحوظ، كما يقول ماثيو آيزمان، أستاذ علوم الأرض والكواكب لدى جامعة ييل، يتعين علينا توسيع نطاق العمل بالتقنية المذكورة وصولاً إلى إزالة مليارات الأطنان من الكاربون سنوياً بدلاً من مجرد مئات الآلاف من الأطنان لهذا العنصر.

كيف تعمل هذه التقنية؟

ينظر إلى عملية "رفع قلوية مياه المحيطات" من حيث الجوهر كتفاعل كيميائي يأخذ مجراه طبيعياً داخل مياه البحار والمحيطات طول الوقت.

يقول انتونيوس غوجرن، المدير التنفيذي لمبادرة "القاء الكاربون في البحر" المموّلة لمشاريع تحسين قلوية المحيطات: "إن المحيطات تعد أعظم قبو لتخزين الكاربون على وجه كوكبنا، كما أن قدرتها على الاحتفاظ بثاني أوكسيد الكاربون بصورة دائمية لا تتأتى من سعتها الهائلة فقط، وإنما من القلوية الطبيعية التي تتسم بها مياهها أيضاً". 

فمياه البحار والمحيطات تميل حالياً إلى النسبة القلوية قليلاً، إذ تبلغ درجة تفاعلها pH : 8,2 (درجة التفاعل pH هي معيار كيميائي لقياس درجة حموضة المحاليل أو قلويتها، حيث إن pH : 7 تمثل نقطة التعادل ما بين الحامضية والقلوية، وما زاد عليها كان قلوياً - أو قاعدياً- وما قل عنها كان حامضياً- المترجم). إن سبب ذلك بدرجة من الدرجات هو عملية التجوية الكيميائية التي أدت عبر تاريخ كوكب الأرض إلى ذوبان صخور الجير الكلسية (limestone) والبازالت (basalt) وغيرها من الأحجار ضمن تلك المياه. 

حينما يذوب ثاني أوكسيد الكاربون في الماء يتفاعل مع هذه المواد القلوية مكوّناً أيونات البيكاربونات، وهي صورة مستقرة من صور الكاربون ذات القدرة على حبس هذا العنصر وابقائه محتجزاً لآلاف السنين، وبذا تنخفض مستويات ثاني أوكسيد الكاربون في الجو من دون أن يسفر الأمر عن ارتفاع بدرجة حموضة المحيط. بعد ذلك، ولأجل استعادة التوازن، يقوم المحيط بامتصاص مزيد من الكاربون من الجو. هذا التفاعل الكيميائي يجعل من المحيط أعظم "بالوعة كاربون" على كوكب الأرض، وهو مصطلح صار يستخدم للإشارة إلى أي خزان، طبيعي أو اصطناعي، يقوم بامتصاص كميات من الكاربون أكثر مما يطلق.

هدف التقنية الجديدة هو تعزيز هذه العملية الطبيعية عن طريق إضافة مواد قلوية إلى الماء، إما على شكل مسحوق أو بصورة مواد مذابة. وبعد دراسة الآفاق المستقبلية لتقنيات إزالة الكاربون البحري وجدت "الجمعية الأميركية للمحيطات والغلاف الجوي" أن "رفع قلوية مياه المحيطات" كانت هي الطريقة الأنجع لاحتجاز الكاربون على المدى البعيد كما أنها من الخيارات الأوطأ كلفة.

من شأن إزالة الكاربون أيضاً المساعدة على الحدّ من تحمض المحيطات. فالمحيطات رغم تغير كيميائها عبر الحقب الجيولوجية غدت أكثر حامضية جراء امتصاصها للمزيد من الكاربون الناتج عن انبعاثات سببها الإنسان، كما يقول أندي جاكوبسون عالم الكيمياء الجيولوجية في جامعة نورثويسترن. زيادة الحموضة هذه جعلت من الصعب على بعض الكائنات البحرية الاستمرار في بناء هياكلها وأصدافها.

يقول جاكوبسون: "إن لتقنية رفع قلوية المحيطات نقاطاً كثيرة لصالحها نظرياً، بيد أن الأمر يقتضي مزيداً من البحث لتحديد مدى فعاليتها وديمومة عملية إزالة الكاربون بهذه الطريقة". 

هل يمكن أن تنجح؟

ينفق أصحاب مشاريع المناخ والجهات الخيرية ملايين الدولارات لتمويل تقنية رفع قلوية مياه المحيطات، كما يبقى الباحثون يتحرّون محاولين التوصل إلى أفضل الاستراتيجيات لتطبيقها. فشركة "إيب كاربون" مثلاً تأخذ مياه الصرف المالحة التي تطرحها محطات تحلية المياه ثم تحولها إلى مياه قلوية باستخدام طرق كهربائية قبل إعادة طرحها إلى البحر، كما يقول آيزمان المؤسس المشارك لهذه الشركة الناشئة ورئيس فريق علمائها.

الطريقة الأخرى لتحقيق هذه الغاية هي طرح صخور أو محاليل قلوية في المحيط باستخدام السفن، في حين يسعى آخرون إلى تعجيل عملية تجوية الصخور (أي تفتيتها وإذابتها بفعل العوامل الجوية الطبيعية) التي تأخذ مجراها طبيعياً بالفعل على السواحل.

أحد أكبر التحديات التي تواجهها العملية يتمثل بقياس كميات الكاربون التي يتم احتجازها بالطريقة المذكورة. فالمعادن القلوية تنتشر وتتبدد بسرعة خلال الأجسام المائية الكبيرة ويصبح من الصعب تحديد كمية الكاربون المزال، كما تقول "داريا أتامانشوك" كبيرة الباحثين لدى جامعة "دالهاوزي" في "نوفا سكوتيا" ومستشارة شركة "بلانيتري" لشؤون قياس الكاربون.

تبقى هناك تساؤلات حول تأثيرات هذه الطرق على الأنظمة البيئية للمحيطات، لذا قد يواجه أي مشروع من هذا القبيل معارضة من جانب صناعة صيد الأسماك. وقد عارضت المجتمعات على الساحل الشرقي هذه المقترحات بالقول إن آثارها لم تفهم جيداً بعد.

تقول "بيث كاسوني"، المديرة التنفيذية لجمعية صيادي جراد البحر في ماساشوستس: "ينبغي عليهم ألا يطرحوا إلى البحر كل ما يريدون". ثم تمضي مضيفة أن لديها شكاً بشأن الفكرة القائلة إن بإمكانك رفع قلوية مياه المحيط كما لو كان بركة سباحة تقع ضمن فنائك الخلفي.

تشير الدلائل المتزايدة من دراسات سابقة أجريت داخل المختبر أو في الخارج تحت ظروف مسيطر عليها إلى أن ما من تأثيرات جدية قد لحقت حتى بالعوالق التي تحتل موقعاً متدنياً ضمن شبكة الغذاء.

وهناك رأي آخر يقول إن الأنظمة والضوابط التي وضعتها وكالة حماية البيئة من شأنها الحد من التأثيرات، نظراً لأن بعض اجراءات رفع قلوية مياه المحيطات تبقي التغيير ضمن درجة تفاعل مياه البحر(pH) جراء إضافة المواد ضمن الحد 9 ولا تتعداه، وهو رأي تتبناه "غريس أندروز" المديرة التنفيذية ومؤسسة منظمة "أوارغلاس كلايمت" اللاربحية التي تجري أبحاثاً تتعلق بقلوية المحيطات وتأثيراتها البيئية. وتضيف أندروز: "أن كثيرين يترددون حالياً في الإقرار بأن الأمر سوف يرتد بالفائدة حتماً على الحياة البحرية، والسبب ببساطة هو حجم العمل المطلوب لتغيير الوضع العام للمحيطات قاطبة. لكن الشيء المؤكد هو أن المشروع يعد بنتائج طيبة مستقبلاً".


عن صحيفة 

"واشنطن بوست" الاميركية