على مدى أكثر من أربعة عقود من الزمن كان ولا يزال الشعار المرفوع في الغالب الأعم عربياً وإسلامياً هو “لا للتطبيع” مع إسرائيل أو الكيان الصهيوني طبقاً لدرجة الحماس القومي والإسلامي. وحين أحدد الفترة الزمنية بعقود أربعة فلأنَّ فكرة التطبيع ومجريات التسويق لها فكرياً وسياسيا وإعلاميا عقب زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات الى القدس عام 1077 ومن ثم توقيعه اتفاقية كامب ديفيد عام 1978. وفيما أخرجت تلك الاتفاقية مصر من معادلة الصراع العربي ـ الإسرائيلي فإنها مهدت الطريق الى سلسلة من عمليات التطبيع إن كان مع دول أو مؤسسات أو شخصيات إعلامية أو أكاديمية أو سياسية في معظم إن لم يكن في كل الدول العربية والغالبية العظمى من الدول الإسلامية.
بعد كامب ديفيد بدا أن العالم العربي بات منقسما بين تيارين أحدهما يدعو للتطبيع مع العدو والآخر يرفع رايات المقاومة والجهاد. المفارقة التي خدمت إسرائيل وخلفها الولايات المتحدة الأميركية واللوبيات التي تقف خلفها هي انقسام معسكري المطبعين والمقاومين.
ففي غضون فترات قليلة وأخرى بعيدة اندلعت حروب ومعارك وصراعات طويلة عريضة بين أقطاب من المقاومين أكثر مما اندلعت مع سواهم من المطبعين. بمعنى أن المطبعين باتوا في وضع مريح بعد أن تحولت الصراعات التي ربما كانت ثانوية بين حاملي مشعل المقاومة والجهاد ضد الكيان الصهيوني الى صراعات أساسية الى الحد الذي بدا فيه أن الطريق الى القدس لا يمر عبر التكامل وتوحيد الصفوف بينهم بل عبر تدمير بعضهم
البعض.
هذه القضية الجوهرية في معادلة الصراع العربي أو الإسلامي ـ الإسرائيلي أو الصهيوني هي التي ترقص لها إسرائيل بـ “جفية” منذ أزيد من أربعة عقود. ولأنَّ تناول هذا الموضوع يحتاج الى دراسة مفصلة وليس عموداً محدود الحيز والمساحة فإنَّ ما يهمني تناوله هنا ما ورد على لسان السفير العراقي في واشنطن الذي قال إنَّ هناك ربما ظروفاً موضوعية قد تبرر إقامة علاقات مع إسرائيل. في البدء لا بدَّ أن نقول إنَّ الحديث عن التطبيع بحد ذاته لم يكن خطاً أحمر بدليل أن هناك من تجاوز مجرد الحديث عن التطبيع الى زيارة إسرائيل. وهذه قصة هي الأخرى معروفة.
لكن ما هو لافت للنظر في كلام السفير وفي رد الخارجية سلسلة مغالطات لا بدَّ من الوقوف عندها، لا سيما إننا نتحدث عن لغة دبلوماسية يجب أنْ تكون دقيقة ومسبوكة ومحيوكة الى درجة عدم ترك أي ثغرة في اللغة أو الأسلوب أو المعلومة. فالسفير يبرر “قد” التطبيع بوجود جالية عراقية في إسرائيل بينما الموجودون يهود من أصل عراقي, والفرق واضح بين لا يحتاج الى تأويل.
أما رد السفارة فإنه هو الآخر غير دقيق جملة وتفصيلاً. أولاً يقول تصريحات غير مناسبة وهو تعبير مراوغ. وثانياً في إطار تحديد موقف العراق يقول إنَّ الدول ووسائل الإعلام تولي أهمية للقضية الفلسطينية.
وهذه جملة مطاطة تتناقض مع ما يقول البيان عن موقف العراق المبدئي الذي حدده البيان برفض قيام علاقات مع “دولة الاحتلال”. هنا نحتاج الى توضيح آخر لهذا التناقض المفهومي. فنحن لا نعترف بدولة اسمها إسرائيل كونها تحتل أرضاً عربية هي فلسطين بمن في ذلك القدس. البيان يسميها دولة لكنها دولة احتلال. هل يعني ذلك أنَّ البيان يتناغم مع “قد” التطبيع طالما أنَّ المشكلة هي في الاحتلال لا في.. الدولة.