إذ أعجبتكُم كثرتُكم

منصة 2025/03/17
...

جواد علي كسار


بعد أن فتح النبي مكة في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة، استقرّ وضع الإسلام في الجزيرة حين دخلت قريش إلى الدين الجديد كرهاً أو طوعاً، ولم يبقَ أمام النبي وفرض سلطة الدعوة على الجزيرة كاملة، إلا القبائل النجدية؛ قبائل هوازن وثقيف.

بدأت مقدّمات غزوة حنين والطائف مع حركة النبي صوب مكة فاتحاً، إذ قبض وهو في طريقه إلى مكة على جاسوس لهوازن، اعترف بأنهم يجمعون لحربه، فأمر النبي بحبسه حتى لا يُخبر قومه بحركة 

النبي. 

في المقابل بعث النبي بجاسوسٍ (عين) إلى هوازن هو عبد الله بن أبي حدرد، فجاس خلال ديارهم، وجمع أخبارهم، وكان من بينها كلام قائدهم البارز مالك بن عوف، وهو يقول نصاً في تحشيد قومه للمعركة ضدّ النبي: يا معشر هوازن، إنكم أحدُّ العرب وأعدُّها، وإن هذا الرجل لم يلقَ قوماً يصدقونه القتال، فإذا لقيتموه احملوا عليه حملة رجلٍ واحد.

أكملت هوازن تحشيد قوّاتها، واتخذت وادي أوطاس شمال شرق مكة مركزاً لمعسكرها، وهو يبعد عن حُنين ببضعة وعشرين كم؛ واتفقت مع ثقيف على حرب النبي، وأن يكون وادي حُنين بين الطائف ومكة، هو معسكرهم المشترك.

رتّب النبي أوضاع مكة على عجل وعيّن عتاب بن أسيد حاكماً عليها، وتحرّك لإطفاء بؤرة الفتنة الأخيرة ضدّ الدعوة في الجزيرة، فخرج بإجماع مؤرخي السيرة بجيش قوامه اثنا عشر ألفاً، وقد بدت حالة الخيلاء والزهو عليهم، فأوصاهم النبي بالإخبات والتواضع، وعدم الركون إلى كثرتهم وحدها، فسمع منهم كلاماً مغروراً، عندما قال أحدهم: لن نُغلب اليوم من قلّة، فشقّ ذلك على رسول الله، وكانت هذه بذرة هزيمة قاسية!.

يصف لنا جابر بن عبد الله ما وقع، بقوله: سرنا، حتى إذا استقبلنا وادي حُنين، كان القوم قد كمنوا في شعاب الوادي ومضائقه، فما راعنا إلا كتائب الرجال بأيديها السيوف والعمد والقنا، فشدّوا علينا شدّة رجل واحد، فانهزم الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد. هزيمة نكراء فاحشة، إذ لم يثبت مع النبي مقاتلاً إلا علياً وتسعة من بني عبد المطلب.

راح النبي يُنادِي بعد أن انهزم مسلمة الفتح وكانوا مقدّمة الجيش، وسرت الهزيمة إلى الجيش بأكمله؛ ويقول: يا معشر الأنصار إلى أين المفرّ؟ ألا أنا رسول الله، فلم يلوِ أحد عليه. يقول الإمام الصادق واصفاً شدّة الموقف على رسول الله: ما مرّ بالنبي يوم كان أشدّ عليه من يوم حُنين! .

أمام هذا الموقف الصعب التجأ النبي إلى ربه، وقد رفع رأسه إلى السماء، وقال: اللهمّ إن تهلك هذه العصابة لم تُعبد، وإن شئت أن لا تُعبد، لا تُعبد! .

كان أول بواكير انقلاب الموقف وعودته لصالح النبي والمسلمين مجدّداً، هو ثبات الإمام علي والتسعة من بني عبد المطلب؛ وثبات امرأة هي نسيبة بنت كعب المازنية، وقد راحت تحثو التراب في وجوه المنهزمين، وتقول: أين تفرّون عن الله وعن رسوله؟ كما للعباس بن عبد المطلب وفدائه الذي أمره به النبي دوره أيضاً، وقد قال له النبي: يا عباس، اصعد هذا الضرب وناد: يا أصحاب البقرة، ويا أصحاب الشجرة، إلى أين تفرون؛ هذا رسول الله! إذ كانت عودة سبعين من الأنصار وثباتهم مجدّداً، بداية تحوّل الموقف لصالح المسلمين مرّة أخرى، وهزيمة عدوّهم.

لقد خلّد لنا القرآن مشاهد هذه القصة، وانجرار المسلمين إلى كثرتهم وزهوّهم بها وحدها، والدرس من ذلك كله؛ بقوله سبحانه: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ 

(التوبة: 25).