أوضحنا في المقال السابق أنَّ إشكاليَّة العلاقة بين الهوية الوطنيَّة والهويات الفرعيَّة تتجلى في التعارض بينها وبصعوبة اندماج الهويات الفرعيَّة لتستظل بالهوية الوطنية، ورغم أن تأسيس الدولة العراقية الحديثة لعام 1921 قد شكل إيذاناً كما يفترض، بإمكانية قيام الأمة الدولة في ظل الهوية الوطنية الجامعة المفترضة للهويات الفرعية واندماجها، غير أنَّ ذلك لم يتحقق طيلة القرن المنصرم سوى بحدود ضيقة ابان العهد الملكي 1921 - 1958 وحتى انقلاب 17 تموز – يوليو 1968، ذلك لأنَّ الهويات الفرعية التي تتنازع في ما بينها ومع الهوية الوطنية كانت تتقدم بحضورها وتأثيرها الاجتماعي على الهوية الوطنية، لكنها تتجلى وتظهر في لحظات تاريخية محددة مثلما تجلت ابان ثورة حزيران – يونيو 1920 كما يرى بعض الباحثين. ومنذ تأسيسها واجهت الدولة العراقية الحديثة في المراحل المختلفة لمسارها عوائق شديدة كانت تمنع تحقيق اندماج حقيقي بين الهويات الفرعية وثقافاتها وتعدديتها صوب تأسيس الهوية الوطنية، لا سيما بين هويات المكونات الرئيسة الثلاث الشيعيَّة، السنية والكردية، فضلاً عن هويات مكونات أصغر.
إنَّ التعددية والتنوع في الهويات والثقافات الفرعية لم تنفرد بها الدولة العراقية الحديثة، إنما بقيت قائمة ومؤثرة وفاعلة سلباً – في أحيانٍ كثيرة حتى في البلدان التي شهدت ظهور الهويات الوطنية والقومية الأكبر وقيام دولة وطنية. على هذا الأساس، وهو الأمر الذي دعا المؤرخ اللبناني وجيه كوثراني على اعتبارها (هويات فائضة) وهو عنوان كتابه الصادر أواخر تسعينيات القرن الماضي، وكما دعا الكاتب اللبناني المغترب في فرنسا أمين معلوف أنْ يصف هذه الهويات، لا سيما المحتربة والمتعادية، بـ (الهويات القاتلة) وهو اسم الكتاب الذي أصدره بالفترة المذكورة ذاتها بعد أن شهد وراقب أعمال القتل والإبادة في الحرب الأهلية اللبنانية وما حصل بين مكونات يوغسلافيا السابقة وخاصة الحرب في البوسنة والهرسك وما رافقها من مجازر تلك الحروب تبعاً لصراع الهويات بينها بعد تأجيج الكراهية والعداء المتبادل بينها. أما الكاتب العراقي باسم المرعبي فقد وصف الهويات الفرعية بـ (الهويات اللقيطة) وهو وصفٌ حادٌّ وغير مناسبٍ لأنَّ هذه الهويات معطاة من واقع موضوعي، وإنْ برر هذه التسمية بقوله إنَّ كل هوية تتعارض مع الهوية الجوهرية للإنسان وتختزل قيمته لانتماء ضيق هي لقيطة وعابرة لأنه لا يتمثل سوى بهويتين إنسانية ووطنية. مع ذلك، فإنَّ الهوية الوطنية التي ينعقد عليها رهان تحقيق الوحدة الوطنية لم تنج من النقد الذي يوجه لها. فعلى سبيل المثال يرى الباحث العراقي عصام الخفاجي المقيم في الولايات المتحدة في بحث له نشر في (الحياة) اللبنانية بعنوان (العراق: مخيفة هذه الوحدة الوطنية!) جاء فيه: مفرحة وحدتنا ومخيف ألا يوحدنا غير الدم المراق، ويضيف، مفرحٌ أنْ نشغل العقل فنختار بملء حريتنا التوحد حول قضية نعرف أبعادها ومعطياتها، ومخيفٌ التوحد حول أسماء مجردة لصق بنا الانتماء إليها بحكم الولادة. وتعبير الوحدة الوطنية نفسه يحمل في طياته تهديداً، إذ يحال الاختلاف أو الاعتراض الى خلاف مع الوطني أو اعتراض عليه الى خيانة...). هذا التعدد والتنوع التقسيمي في الهويات مرشحٌ، كما يرى الباحث فالح عبدالجبار للبقاء والاستمرار بسبب جذوره البنيوية في السياسة والاقتصاد والثقافة عموماً) ويمكن أنْ نضيف أيضاً، انه مرشح للتفاقم والاشتداد أكثر من ذلك لأنَّ للهويات الفرعية العديد من المبررات الاجتماعية والثقافية والقيم والعادات. وغيرها، ويفسر الكاتب اللبناني أمين معلوف ذلك في كتابه بالقول (يبدأ التدريب باكراً منذ الطفولة الأولى، يقوم أهله بقولبته وتطويعه وتلقينه المعتقدات العائليَّة والطقوس والمواقف والأعراف واللغة الأم، ومن بعدها المخاوف والطموحات والأحكام المسبقة والضغائن، فضلاً عن سائر مشاعر الانتماء واللا انتماء). ومهما تكن تعبيرات الصراع والتضاد والنزاعات بين الهويات الفرعية والهوية الوطنية وأسبابها ومبرراتها العميقة، فإنَّ الحاجة الموضوعية لمكونات هذه الهويات الى الاستقرار وبناء حياة أفضل لا تتحقق إلا من خلال الدولة.. الأمة وتقدم الهوية الوطنية الجامعة الشاملة على الهويات الى الاستقرار.. وفي العراق يتطلب تحقيق ذلك، كما يقول عبد الجبار (الى يقظة جديدة بعد قرن من التقدم خطوة والتراجع خطوات). ولترجمة ذلك ينبغي القيام بـ:
- النشر الواسع للتعليم والثقافة بين جميع المواطنين.
- نشر وتعميم ثقافة نبذ الكراهية وتعزيز ثقافة التسامح وقبول الآخر.
- سعي مختلف مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني لاستيعاب الهويات الفرعية وليس إقصاءها وتهميشها.
- تحقق الدولة بمختلف مؤسساتها ما يمكن تحقيقه من الاحتياجات والمطالب المحقة لمكونات الهويات الفرعية.
- انتهاج سياسة الحوار والإقناع والحلول الوسط لحل الخلافات.
أخيراً يمكن القول إنَّ حل إشكالية العلاقة بين الهوية الوطنية والهويات الفرعية ليس بالسهل، إنما يتطلب عدا الحرص الوطني، العمل الدؤوب والمتواصل لابتداع الأفكار والسبل العمليَّة للوصول الى هدف الاندماج المجتمعي مع احتفاظ كل هوية فرعية بخصوصيتها وتطلعاتها وتمايزها المشروع.