تحركات داخل أوروبا لتعويض الغطاء الأميركي

بانوراما 2025/04/09
...

ماتياس جيباور، وآخرون

 ترجمة: مي اسماعيل


  وداعا للولايات المتحدة..! بينما أوضح الرئيس الأميركي ترامب قلة اهتمامه بالشراكات عبر الاطلسي؛ تحاول اوروبا سريعا أن تصمم استراتيجية لمواجهة الموقف الناتج عن حرب أوكرانيا.. ومستقبلها.

هناك حالمون حتى وسط الأوقات المظلمة.. فقد رفع متظاهرون مؤخرا عبر عشرين مدينة ايطالية شعار "الولايات المتحدة الأوروبية.. الآن"، وهم يلوحون بعلم الاتحاد الأوروبي.. هتف أحدهم من روما: "نحن لسنا تابعين"؛ ومضى قائلا إنه على النقيض من "الضواري" مثل ترامب وبوتين؛ فإن أوروبا قارة عظيمة.. "ونحن الذين طورنا الديمقراطية". ولم يمر ذلك اليوم حتى طار الرئيس الفرنسي ماكرون عبر القنال الانكليزي ليحضر قمة أزمة تستضيفها لندن. عرض ماكرون على أحد صحفيي "لوفيغارو" الفرنسية اليومية خارطة عن مواقع تواجد قوات حلف الناتو الأميركية على امتداد أوروبا؛ قائلا: "يُشكل الاميركان نحو ثلاثين بالمئة من الناتو، وسنحتاج الى عشر سنواتٍ حتى نُخلّصَ أنفسنا منهم".

 قبل بضعة أشهرٍ فقط كان من الممكن اعتبار أي صورة لأوروبا قوية ومرنة ومستعدة للدفاع عن ديمقراطيتها الليبرالية العالمية دونما حاجة إلى قوة أميركا الحامية على أنها مجرد حلم بعيد التحقق. ولكن تلك الصورة أصبحت تبدو اليوم كمخطط تفصيلي لمستقبل أوروبا؛ وإن كان يائساً. ويبدو ان الوقت بدأ ينفد أمام ماكرون وغيره من القادة الأوروبيين؛ إذ أهملوا منذ سنوات الاستعداد لمواجهة الكارثة التي حلّت الآن. 

خلال لقاءٍ شهده البيت الابيض إتهم الرئيس الاميركي ترامب ضيفه الرئيس الاوكراني زيلينسكي بالمخاطرة بإشعال الحرب العالمية الثالثة.. انهارت صفقة المعادن المرتقبة بين الطرفين، وبعدها علّق ترامب المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا.. والواقع فإن الاوروبيين يحتاجون حاليا وبشدة لإيجادِ ردٍ على الهجمات المتوازية التي تأتيهم من قبل موسكو وواشنطن، كما ان التقليل من خطورة الوضع الحالي أمرٌ مستحيل.. وقد حان الآن وقت إنقاذ ما يمكن انقاذه بالنسبة لأوكرانيا واعادة تحصين القارة الأوروبية. يقول وزير الخارجية الفرنسي "جان نويل بارو": "خطر اندلاع حرب داخل القارة الأوروبية أعظم من أي وقت مضى". ويقول السير "ريتشارد شيريف" نائب القائد الأعلى السابق لقوات الحلفاء في أوروبا: "الود مع أميركا انتهى.. نحن نعيش عالما مختلفا". 

أما "فريدريش ميرتس" الذي فاز بالانتخابات الالمانية التي أجريت خلال شباط الماضي فيريد تحقيق.. "الاستقلال عن الولايات المتحدة خطوة خطوة".. وهذه بداية لسباق يقطع الانفاس للّحاق بالركب؛ عسكريا واقتصاديا؛ ولكن التحديات السياسية ستكون أكثر دراماتيكية حتى من البحث عن المال أو الدبابات والصواريخ.. فهل ستتمكن القيادات والحكومات الأوروبية من إيجاد استراتيجية للبقاء ضمن هذا العالم الجديد؟ وهل ستتمكن أوروبا من النمو مع هذه الازمة؛ كما فعلت مع معضلات سابقة؟ أم هل ستعمل صدمة ترامب- بوتين على التعجيل بالسقوط السياسي للقارة؟

 

قيادة ثنائية جديدة لأوروبا

وجدت أوروبا بالفعل ثنائيا قياديا جديدا؛ للوقت الحاضر على الأقل.. خلال الخريف الماضي تجول الرئيس الفرنسي ماكرون مع رئيس الوزراء البريطاني "كير ستارمر" عبر باريس مستقلين مركبة عسكرية مكشوفة، للاحتفال بذكرى إنتصارهم أثناء الحرب العالمية الأولى. والآن يريد الرجلان قيادة القارة خروجا من حالة غياب النضج التي فرضتها على نفسها. لم يستقبل الرجلان (قادة) أهم دول الاتحاد الاوروبي خلال قمتهما فحسب؛ بل الشركاء المنضوين تحت حلف الناتو ايضا؛ مثل النرويج وكندا وتركيا.. وهذه الاخيرة لها تركيز خاص: فللرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" جيش كبير متمرس بالحروب، وهو على علاقة جيدة مع كل من بوتين وزيلينسكي. أما الرؤساء الموالون لروسيا (من هنغاريا وسلوفاكيا) فلم تُوجّه لهم الدعوة. 

يُشار أحيانا الى هذه المجموعة داخليا بعبارة أوروبا بلاس "أوروبا +"، ويحلم البعض فيها بتشكيل نسختهم الخاصة من حلف الناتو البديل؛ المجهزة ببنود المساعدة المتبادلة الخاصة بها. لكن مراقبين آخرين؛ ومنهم الخبير العسكري الفرنسي "بيير سيرفان" يُحبذ إنشاء مجلس دفاع اوروبي يمكن أن يضم الشركاء الأكثر استعدادا والأقوى عسكريا إلى جانب ممثلي الاتحاد الأوروبي. يمكن للمجلس تنسيق العمليات العسكرية وتدريب القوات الأوكرانية وتوسيع صناعة السلاح الأوروبية. يمضي سيرفان قائلا أن بإمكان ألمانيا الانضمام الى المجلس خلال وقت لاحق؛ (وهي اشارة الى حقيقة أن برلين الآن ضمن طور تشكيل الحكومة الائتلافية الجديدة بعد انتخابات شباط الماضي)، كما يرى أن السرعة هي العامل الأهم، وعلى الأطراف المستعدة الآن المضي قدما. ستتضح مدى جدية الأوروبيين من كمية المال المخصص للمشروع؛ إذ ترتفع ميزانيات الدفاع بسرعة الآن عبر كل دول القارة الأوروبية تقريبا. وتأمل رئيسة المفوضية الأوروبية "أورسولا فون دير لاين" بدعم التطوير العسكري ضمن خطة بعنوان "إعادة تسليح أوروبا"؛ تسعى لتعبئة إجمالي ثمانمئة مليار يورو لأغراض الدفاع، بتطبيق قواعد الدين المشترك ((بين الشركاء)) والعجز المرن. ويمكن أن تضاف لهذا المشروع نحو 22-300 مليار يورو لو أفرج الاتحاد الأوروبي عن الأصول الروسية المجمدة لتقديم الدعم العسكري الى أوكرانيا؛ كما تُطالب دول البلطيق وفنلندا وبولندا. لذا يمكن القول أن التحدي، من الناحية الاقتصادية، يمكن تحقيقه رغم الجدليات حول قوانين الموازنة المتوازنة وقواعد العجز. وان رسوم الاشتراك مع "أوروبا +" ستكون باهظة؛ لكنها ممكنة.

 

"القنفذ الحديدي"

يبلغ عدد سكان الاتحاد الأوروبي نحو 500 مليون؛ ودوله الاعضاء من أغنى دول العالم؛ كما ترى "ناتالي توتشي" من مؤسسة " معهد الشؤون الدولية" الإيطالية للأبحاث: "لا ينبغي علينا الاستمرار بالنظر الى أنفسنا كمستعمرة أميركية؛ وحينها يمكننا أن ننجح". لكن الحالة من المنظور العسكري أقل اشراقا بكثير؛ خاصة على جبهة اوكرانيا.. فاذا رفض ترامب إستئناف شحنات الاسلحة الى أوكرانيا، فعلى الارجح أن لا تتمكن كييف من الاستمرار بالقتال بنفس القوة المعتادة سوى لبضعة أشهر أخرى فقط. يُحذر الخبراء أنه بحلول الصيف (أو ربما قبله) ستنفد الذخائر من مخازن عتاد أوكرانيا، والاسوأ حقيقة ان الولايات المتحدة توقفت عن مشاركة بيانات الاستطلاع. وليس بإمكان الاوروبيين الآن التعويض عن النقص الاستخباراتي. 

من أكبر مخاوف الفرنسيين والبريطانيين اليوم هي مواجهة مرحلة ما بعد وقف النار المحتمل؛ خشية ان يعقد ترامب اتفاقا مع الرئيس الروسي بوتين بأي ثمن. ولا يحبذ الاوربيون إتفاقا مشابهاً لإتفاق مينسك؛ الذي أعقب ضم روسيا لشبه جزيرة القرم سنة 2014. ويرى رئيس الوزراء البريطاني ستارمر أن على أوكرانيا الحصول على ضمانات أمنية حقيقية هذه المرة؛ رغم أنها تبقى موضع نقاش مكثف! لكن الاوربيين يتفقون على مسألة واحدة على الاقل: حالما تصمت المدافع يتعين إعادة تسليح كييف.. تقول "فون دير لاين" أنه ينبغي تحويل أوكرانيا الى "قنفذ حديدي"؛ رغم أن ماكرون وستارمر يشككان أن يكون ذلك كافيا لردع بوتين.. يرغب الرجلان بتأمين وقف اطلاق النار بقواتهما، ويبحثان عن الدعم لإقامة "تحالف الراغبين". سيكون التركيز الاساسي لهذا التحالف؛ على ما يطلق عليه إسم "قوة الطمأنينة"، المؤلفة من نحو ثلاثين ألف جندي يتمركزون بعيدا وراء الخطوط الأمامية، مهمتهم الاساسية حماية البنى التحتية الحيوية. كما يمكن للسفن الحربية حماية الموانئ الأوكرانية وطرق التجارة المارة عبر البحر الأسود، أما خط وقف اطلاق النار البالغ نحو ألف كيلومتر فسيتعين مراقبته من الجو. وشهدت باريس مؤخرا اجتماع نحو ثلاثين من قادة العسكرية الاوروبية وحلف الناتو؛ ممن يرغبون بتقديم  ضمانات أمنية؛ بدعوة من الرئيس ماكرون؛ الذي قال ضمن خطاب بثه التلفاز الفرنسي الى الشعب: "لن تكون واشنطن وموسكو هما من يقرر مستقبل أوروبا". وانضمت هولندا وأستراليا وكندا الى الدول الاسكندنافية ودول البلطيق بإيصال إشارات مبكرة بأنها ستكون مستعدة للانضمام إلى "تحالف الراغبين". 

إستبعدت بولندا ارسال الجنود؛ قائلة ان عليها الدفاع عن خاصرتها الشرقية، كما لم تكن رئيسة الوزراء الايطالية داعمة للمشروع؛ قائلة: "نحن نتحرك بسرعة كبيرة..". وبقيت برلين متشككة أيضا؛ إذ يرى المستشار الالماني شولتز وميرتس الفائز بالانتخابات أن تلك الجدلية سابقة لأوانها..

سيناريوهات أخرى

هناك سيناريوهات أخرى قيد الاعتبار، منها السؤال التالي: لم لا تُنقل عمليات تدريب الجنود الاوكرانيين، التي كانت تجري داخل قواعد عبر ارجاء أوروبا، الى أوكرانيا ذاتها؟ يقول الداعمون لهذا المبدأ أنه سيُظهِر التضامن مع اوكرانيا؛ لكنه لن يشمل ارسال قوات أوروبية الى الجبهة. لم تُقابَل المخاوف الالمانية بالاستحسان من قبل كل من لندن وباريس، وقال مسؤول حكومي فرنسي رفيع: "ما زال العديد من الاوروبيين مشلولون؛ كأنهم أرانب يتم تسليط ضوء مصباح عليها..". 

بعد لقاء البيت الابيض العاصف الذي جرى خلال الشهر الماضي بين الرئيسين الاميركي والاوكراني؛ وصل ماكرون وستارمر الى استنتاج بضرورة تقديم خطتهم الخاصة حول أوكرانيا بالسرعة الممكنة؛ شرط ان يكون بإمكان زيلينسكي التعايش معها. ويبقى الشك حول نجاح خطة الرئيسين قائما؛ إذ ليس من الواضح أن الرئيس الروسي سيقبل بوجود قوات الناتو داخل أوكرانيا (رغم التهديد بفرض عقوبات ضد موسكو لدفعها نحو قرار وقف اطلاق النار وتنازلات ترامب المتتالية لبوتين)؛ أو حتى القبول بوقف النار! بينما يبدو ان العقبة الأكبر أمام الخطة هي دونالد ترامب ذاته؛ يُصر ستارمر على وجود "شبكة أمان" أميركية تتصوّر تدخُّل واشنطن إذا تعرضت القوات الاوروبية للهجوم؛ والا (كما يقول) سيكون ارسال القوات أمراً مستحيلاً. لكن ترامب لا يبدو مهتما بتقديم مثل هذا الوعد؛ قائلا: ان وجود العمال الاميركان وسط أوكرانيا سيكون كافيا؛ فطالما انهم يستخرجون معادن اوكرانيا النادرة لن يجرؤ بوتين بالتأكيد على مهاجمتهم. وايّدهُ نائب الرئيس الاميركي "فانس" قائلا: "انها طريقة أفضل لأمن مضمون؛ خيرٌ من عشرين ألف جندي من بلد عشوائي لم يخّض حربا منذ ثلاثة أو أربعة عقود". 

لكن آراء المراقبين تقول إن "تحالف الراغبين" قد ينهار سريعا من دون الاستحسان الاميركي؛ وثمن هذا الفشل لن يدفعه الاوكرانيون فحسب؛ بل احتمالاً: مولدوفيا ورومانيا ودول البلطيق؛ كما تعتقد الباحثة الايطالية توتشي التي علقت بالقول: "حالما يُدرك بوتين ان الناتو قد مات؛ فقد يتحرك ضد ليتوانيا مستعدا نحو الخطوة القادمة".. وسيتعين على الغرب بعدها أن يثبت مدى استعداده للدفاع عن نفسه.


صحيفة "دير شبيغل" الألمانية