العراق يواجه تقلبات سوق النفط بخطط اقتصادية مدروسة

بغداد: القسم الاقتصادي
في وقت تشهد فيه أسواق النفط العالمية تقلبات ملحوظة أثارت حفيظة العديد من الدول ذات الاقتصادات المعتمدة على الإيرادات النفطية، يتحرك العراق بهدوء نحو تبني ستراتيجيات مدروسة للحد من التأثيرات السلبية المحتملة، مع الحفاظ على استقراره الاقتصادي والمالي.
وبرغم الانخفاض الأخير في الأسعار، وصف المستشار المالي لرئيس الوزراء الدكتور مظهر محمد صالح، هذه التراجعات بأنها "مؤقتة"، معبّرًا عن ثقته بعودة التوازن إلى السوق في المدى القريب.
وأكد أن العراق يمتلك أدوات مرنة وقدرة مالية تمكّنه من مواجهة مثل هذه التحديات، من دون إحداث اضطرابات كبيرة في السوق المحلية.
وتعمل الحكومة حالياً على مراجعة سياساتها الاقتصادية، ضمن خطة أوسع تهدف إلى تنويع الإيرادات وتعزيز كفاءة الإنفاق العام، في خطوة تعكس توجهًا استباقيا نحو إدارة المخاطر وبناء اقتصاد أكثر توازناً واستدامة.
وسجلت أسعار النفط الخام ارتفاعا بنسبة 1 % في تعاملات أمس الثلاثاء بعد عمليات بيع مكثفة في الجلسات الماضية.
وكشف المستشار المالي لرئيس الوزراء، في تصريح خاص لـ"الصباح"، عن أن قانون الموازنة العامة الثلاثية لعام 2023 (المعدل) قد أُعدّ بمراعاة اتجاهين رئيسين لمواجهة تقلبات أسعار النفط؛ الاتجاه الأول يتمثل في التحوط المالي المسبق، إذ تم اعتماد سعر حدي للبرميل يبلغ 70 دولاراً، مع عجز افتراضي مقدّر بـ64 ترليون دينار.
وأشار إلى أن مؤشرات التنفيذ الفعلي خلال عام 2024 أظهرت أن الحكومة لم تلجأ سوى إلى اقتراض نحو 12 ترليون دينار فقط، أي ما يعادل تمويلاً بعجز نسبته 18 % من سقف العجز الافتراضي، وهو ما يعكس انضباطاً مالياً وقدرة على ضبط الإنفاق. وبيّن أن معظم القروض التي تم اللجوء إليها جاءت من السوق المصرفية المحلية، وتحديداً من المصارف الحكومية، من دون تحميل الاقتصاد أعباء خارجية إضافية.
وأضاف صالح، أن الاتجاه الثاني في معالجة تحديات تراجع أسعار النفط يتجسد في انخفاض الإنفاق الفعلي مقارنة بالإنفاق المخطط، إذ لم يتجاوز الإنفاق السنوي 72 % من الإجمالي المخطط له في الموازنة، الذي بلغ 200 ترليون دينار. وأشار إلى أن هذه النسبة تُعدّ واقعية بالنظر إلى أن التخصيصات المعتمدة لغرض الإنفاق لا تتحقق في أفضل سنواتها بنسبة أعلى من ذلك إلا قليلاً.
وبرغم هذه التحديات، لفت صالح إلى أن البلاد نجحت في تغطية الالتزامات الأساسية مثل الرواتب والأجور والمعاشات التقاعدية والرعاية الاجتماعية، فضلاً عن الدعم الموجه للمحاصيل الزراعية ومختلف أشكال الدعم الأخرى. وأكد أن الحكومة قد أطلقت عددًا من المشاريع الخدمية والاستثمارية التي تميزت بالتنفيذ المتسق والمدروس، بما يعكس تنسيقًا عاليًا بين الجهات المعنية، وهو ما بات واضحًا للجميع في الفترة الأخيرة.
وأشار صالح إلى أن دورة الأصول النفطية قد تشهد انخفاضاً في الوقت الراهن، إلا أن هذا التراجع لن يدوم طويلاً قبل أن تعود السوق النفطية إلى وضعها الطبيعي. وأوضح أن هناك سببين رئيسين وراء هذا التوقع؛ الأول يتعلق بالتحديات الاقتصادية التي تواجهها الصناعة النفطية العالمية، التي تعمل في كثير من الحقول بتكلفة تصل إلى 60 دولاراً للبرميل. هذه التحديات قد تؤدي إلى خسارة الاستثمارات وتوقف الإنتاج، خاصة في حقول النفط الصخري في الولايات المتحدة، التي تتميز بتكاليف مرتفعة. أما السبب الثاني، فقد أشار إلى أن الصين، باعتبارها أكبر مستورد للنفط في العالم، بنحو 10 % من النفط الخام المنتج عالميًا، ستستفيد بشكل كبير إذا انخفضت أسعار النفط لفترات طويلة. ولفت إلى أن هذا التراجع سيكون له تأثيرات غير مسبوقة في الحرب التجارية، بحيث ستعزز الصين موقعها الاقتصادي في ظل انخفاض أسعار النفط، وهو ما سيصب في صالحها في النهاية.
من جانبه، أشار الخبير الاقتصادي ميثم البولاني، إلى أن فرض الرسوم على الصادرات العراقية، خاصة النفط الخام، قد يؤثر سلبًا في الاقتصاد، على الرغم من أن النسبة ليست كبيرة. كما أكد أن الركود الاقتصادي العالمي سيؤدي إلى تراجع الطلب على النفط الخام، وهو ما سينعكس بدوره على العراق.
المختص في الشأن الاقتصادي، ناجي الغزي، لفت من جانبه إلى أن الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب كان لها تأثير غير مباشر، ولكنه عميق في سوق النفط العالمية. وأوضح أن النفط العراقي كان له نصيب كبير من هذه التأثيرات السلبية، إذ تسببت السياسات الحمائية، خصوصاً الرسوم المفروضة على الصين، في نشوب حرب تجارية بين أكبر اقتصادين في العالم. هذه الحرب التجارية أسهمت في تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، مما أدى إلى انخفاض الطلب على الطاقة، وعلى رأسها النفط. وأوضح أن الصين تعتبر من أكبر مستوردي النفط العراقي، وبالتالي فإن تراجع اقتصادها نتيجة للرسوم الأمريكية أدى إلى تقليص وارداتها من النفط، بما في ذلك النفط العراقي، مما أسهم في زيادة العرض مقابل الطلب، ودفع بالأسعار نحو الانخفاض.
وشدد الغزي على أن الرسوم الجمركية الأمريكية تُعد عاملاً غير مباشر في تفاقم العجز المالي العراقي، من خلال تأثيرها في الاقتصاد الصيني، ومن ثم في الطلب العالمي على النفط. وأضاف أن هذه السياسات تُضعف ثقة المستثمرين الأجانب في بيئة الاستثمار النفطي داخل العراق، بسبب عدم استقرار السوق، مما قد يؤخر تنفيذ مشاريع تطويرية مهمة في قطاع الطاقة.
من جانبه، أوضح المتخصص في الشؤون المالية العامة الدكتور أحمد هذال، أن المؤشرات المالية في العراق خلال الفترة الممتدة من 2004 حتى 2024 تكشف عن اعتماد شبه كلي على الإيرادات النفطية، التي تشكل أكثر من 90 % من إجمالي الإيرادات العامة، وهو ما جعل الاقتصاد الوطني هشًّا أمام تقلبات أسعار النفط، كما حدث في أزمات 2009، 2014، و2020. وأشار هذال إلى أن مساهمة القطاعات غير النفطية – مثل الصناعة والزراعة والخدمات – لا تزال محدودة، نتيجة ضعف البنية الاقتصادية، وغياب السياسات التحفيزية، إلى جانب البيروقراطية التي تعيق الاستثمار، إضافة إلى خلل في النظام الضريبي، الذي يعاني من ضيق القاعدة الضريبية وسوء آليات الجباية، مما يؤدي إلى ضعف الإيرادات غير النفطية. ولتحقيق التوازن المالي، وتعزيز الإيرادات المستدامة، يرى هذال ضرورة الشروع بإصلاح ضريبي شامل، يشمل توسيع القاعدة الضريبية، وفرض ضرائب تصاعدية على الدخول المرتفعة، بالتوازي مع تحفيز الاستثمار عبر إصلاح البيئة القانونية، وتقديم الحوافز والتسهيلات المطلوبة.
كما دعا إلى تنويع الاقتصاد من خلال دعم القطاعات الإنتاجية، وتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، إضافة إلى ضرورة إعادة توجيه النفقات العامة من الإنفاق الجاري إلى الإنفاق الاستثماري، بما يضمن تحقيق عوائد مستدامة تسهم في تقوية الاقتصاد الوطني على المدى الطويل.
يذكر أن أسواق النفط تنفست الصعداء مع تسجيل الأسعار مكاسب تجاوزت واحدا بالمئة، خلال التعاملات الآسيوية أمس الثلاثاء، لتتعافى بعد عمليات بيع مكثفة في الجلسات الماضية بسبب مخاوف من أن تقلص الرسوم الجمركية الأميركية الطلب وتؤدي إلى ركود عالمي.
بحلول الساعة 0051 بتوقيت غرينتش، ارتفعت العقود الآجلة لخام برنت 81 سنتا، بما يعادل 1.26 بالمئة، إلى 65.02 دولارا للبرميل، كما زادت العقود الآجلة لخام غرب تكساس الوسيط الأميركي 92 سنتا أو 1.52 بالمئة، إلى 61.61 دولارا للبرميل، بحسب بيانات وكالة رويترز.
في جلسة أمس الأول الاثنين، هبطت أسعار النفط اثنين بالمئة، لتقترب من أدنى مستوى لها في أربع سنوات، بسبب مخاوف من أن تدفع الرسوم الجمركية الحديثة، التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الاقتصادات العالمية إلى الركود وتقلل الطلب على الطاقة. ومع ذلك، تتوقع الأسواق حدا محتملا لتراجع أسعار النفط.
ويصر ترامب على أن الرسوم الجمركية من شأنها تسهيل إحياء القاعدة الصناعية الأميركية، التي يقول إنها شهدت تراجعا بسبب تحرير التجارة لعقود. وتبلغ الرسوم 10 بالمئة كحد أدنى على جميع الواردات إلى الولايات المتحدة، مع نسب أخرى تستهدف دولا محددة تصل إلى 50 بالمئة.
وفي وقت تسعى فيه دول عديدة إلى الحصول على إعفاء، أو تخفيض الرسوم الجمركية في الأقل، أعلنت بعضها مثل الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، خططا لفرض رسوم جمركية مضادة.