كريستا فولف.. الأسطورة من منظور المرأة

ثقافة 2025/04/10
...

  د. بهاء محمود علوان

منذ عصر التنوير، الذي وجد متطلبات استمراره وامتداده في أعمال مؤلفين كبارٍ مثل برتولت برشت، وبيتر هاكس، وهاينر مولر، كان لكريستا فولف تميز بائن عن بقيَّة هؤلاء الكتاب حين اقتربت ولأول مرة من الأساطير اليونانيَّة القديمة في كتاباتها في أوائل الثمانينيات.


لقد كان اسمها، مع قلة من الأدباء الآخرين، ممثلاً لأدب جمهوريَّة ألمانيا الديمقراطيَّة السابقة. وقد برزَ اسم كريستا فولف من خلال المراسلات، وممارسات النشر، والتأليف، والكتابة، فضلاً عن كونها ممثلة لجزءٍ من أدب جمهوريَّة ألمانيا الاتحاديَّة في ما بعد. ومن خلال موقعها الاجتماعي النشط وتصريحاتها السياسيَّة فهي واحدة من أحد أكثر الكتاب الألمان تأثيراً على المستوى الدولي. 

ويتجلى الاعتراف العالمي بها من خلال الترجمات العديدة لأعمالها، والجوائز المحليَّة والأجنبيَّة التي حصدتها كريستا فولف، فضلاً عن العديد من الكتب والمؤلف والدراسات والبحوث التي كُتبتْ عنها، وغالباً ما كانت الكتب التي تكتبُ عنها تعاد طباعتها لأكثر من مرة.

ولأنَّ كريستا وولف شخصيَّة محوريَّة في النقاش الأدبي الألماني، فقد أسهمت في تشكيل الأدب الألماني بأكمله في ثمانينيات القرن العشرين، كما وتُعدُّ أيضاً ممثلة للأدب النسوي وكتابات المرأة. 

ومع رحلتها الأولى إلى اليونان، واجهت المؤلفة بقايا الثقافة المينويَّة والهلنستيَّة. إنَّ انطباعاتها عن الثقافة ما قبل الهلنستيَّة وإدراكها لقمع أو تحويل المجتمع القديم من قبل الهياكل الأبويَّة تقودها إلى تغييرٍ جوهري في "الشبكة البصريَّة لديها"، فتقول كريستا فولف: إنَّ تعلم قراءة الأسطورة هو مغامرة بحد ذاتها، هذا الفنُّ يفترضُ تحولاً تدريجياً للوجود الذاتي، واستعداداً للاستسلام للارتباط السهل ظاهرياً بين الحقائق الخياليَّة، والتقاليد التي تتكيف مع احتياجات المجموعة المعنيَّة، والرغبات والآمال، والتجارب وتقنيات السحر - باختصار، لمحتوى مختلف لمفهوم "الواقع".

وتبدو لها الأسطورة "مفيدة" للراوي أو للكاتب اليوم بوصفها أنموذجاً مفتوحاً بما يكفي لاستيعاب تجربة المرء الخاصة من الحاضر الراهن، والذي يسمح بالمسافة التي غالباً ما يجلبها عامل الوقت فقط. "إنه يستطيع أنْ يساعدنا على رؤية أنفسنا من جديد في عصرنا الحالي".

وتنجذب فولف إلى إمكانيَّة استخدام المجتمعات المبكرة والشخصيات التي تبدو بعيدة، كمثالٍ أو شواخص لتوضيح المشكلات المعاصرة، كما حدث في كثيرٍ من الأحيان في الأدب الألماني. وفي روايتها (كاساندرا - 1983)، لم تواصل تقليد اقتباس الأساطير في تاريخ الأدب الألماني فحسب، بل بدأت أيضاً مرحلة جديدة من العمل على الأسطورة من منظور المرأة. 

على خلفيَّة الأسطورة اليونانيَّة، نجحت الكاتبة في الإدلاء بتصريحاتٍ بينما كانت تتحايل على لوائح الرقابة في جمهوريَّة ألمانيا الديمقراطيَّة، ولكنْ أيضاً في معالجة مخاوف النساء وللتعبير عن حركة السلام بهذه الطريقة. وعندما تتحدث فولف عن الإشارة الواعية إلى واقع "السرد الرئيس"، فإنَّها توضح أنَّ معالجتها للأسطورة هي ردُّ فعلٍ على تكثيف الصراع بين الشرق والغرب نتيجة لسباق التسلح في أوائل الثمانينيات، والذي ترى في تطوره تعبيراً سلبياً عن الفكر الغربي.

وتتفاعل رواية (ميديا - الأصوات)، التي كتبتها في العام 1996، أيضاً مع وضعٍ إشكالي تاريخيٍ معاصر، إذ تتأمل المؤلفة المشكلات الوطنيَّة المرتبطة بإعادة توحيد الألمانيتين. وعندما تكتشف الرواية أثناء عودتها بالزمن إلى الوراء، فإنَّها تُفتَن بإمكانيَّة رؤية هذه الأسطورة بأعين جديدة وربطها بموقفنا الحالي. في مقابلة مع بيترا كامان، تقول كريستا فولف عن مشروع روزايتها (ميديا - الأصوات): لقد فوجئتُ أنا أيضاً بعودة شخصيَّة أسطوريَّة لتمثل واقعنا الحالي، فعندما تبدأ في التعامل مع شخصيَّة ميديا، تُدرك أنَّ ثقافتنا، كلما واجهت أزمات، تعود دائماً إلى أنماط السلوك نفسها: إقصاء الناس، وغرس صورٍ معادية، وحتى إنكارٍ وهميٍ للواقع. إنَّ هذا الاستبعاد للأجانب يمتدُّ عبر تاريخ ثقافتنا بأكمله.

في سياق إعادة التوحيد، أصبح المؤلف إحدى الشخصيات المركزيَّة في معالجة أكثر من نصف قرنٍ من التاريخ الألماني. قبل نشر رواية (ميديا - الأصوات)، تعرضت كريستا فولف لحملة تشهيرٍ في أوائل التسعينيات.

وقد أثار نشر كتابها (ما تبقى - 1990)، والذي كانت قد فكرت فيه قبل عقدٍ من الزمان، انتقادات واسعة النطاق. تُتهم كريستا وولف بدعم النظام الاستبدادي في جمهوريَّة ألمانيا الديمقراطيَّة من خلال موقفٍ انتهازي. لقد وصل الجدل حولها إلى ذروته بعد أنْ تمَّ الكشف عن محتويات ملفاتها الخاصَّة بجهاز المخابرات الألماني "ستاسي" خلال الفترة من 1958 إلى 1962.

وقد حظيت كريستا فولف بإشادة كبيرة في الغرب قبل سقوط الجدار، وفجأة تعرضت للانتقاد والذم بوصفها شاعرة الدولة في جمهوريَّة ألمانيا الديمقراطيَّة. في رأي ج. روب، لا تمثل الرواية الأدب المعاصر في فترة التسعينيات فحسب، بل تمثل أيضاً أدب جمهوريَّة ألمانيا الديمقراطيَّة. 

إنَّ هذا التصنيف مبررٌ؛ لأنَّه يستحضر هذا العمل مرة أخرى أدب هذه الحالة المفقودة، ومن ناحية أخرى، تعمل المؤلفة بشكلٍ منتجٍ ومن دون انقطاعٍ على عملها الخيالي والصحفي، والذي يسمح لنا تطوره بمتابعة جزءٍ من التاريخ الألماني "المقسم" في هذه الفترة التاريخيَّة. ولم ينتقد هنا الكاتب جيرهارد روب أدب الواقعيَّة الاشتراكيَّة فحسب، بل شمِلَ كذلك كل الخط النقدي الاجتماعي للأدب المكتوب باللغة الألمانيَّة.

وترى المؤلفة نفسها أنَّ الجدل الذي أثارته وسائل الإعلام هو "نيَّة مسبقة ومحسوبة" وحملة تهدف إلى تدمير الشخصيات القياديَّة في جمهوريَّة ألمانيا الديمقراطيَّة، بما في ذلك العديد من المؤلفين. في الواقع. وقد أشار أ. كيارلوني إلى أنَّ النقد موجهٌ ليس إلى عمل كريستا فولف لوحدها فحسب، بل إلى المحاسبة غير المباشرة مع مثقفي جمهوريَّة ألمانيا الديمقراطيَّة في تلك الحقبة أيضاً.

إنَّ التشابه الواضح بين وضع حياة المؤلفة كريستا فولف ومصير البطلة في رواية (ميديا - الأصوات) في الأسطورة يدفع العديد من النقاد إلى تقليص التعديل الأدبي إلى قراءة ذاتيَّة وحرمان الرواية من أي جودة جماليَّة. جدلٌ حادٌّ لا يتعلق بالأدب أو البعد الجمالي، وإنَّ من بين النصوص، التي أثارها مشروع كاساندرا أيضاً ضجة بعد وقتٍ قصيرٍ من نشره. يتراوح نطاق المراجعات الصحفيَّة المثيرة للجدل من تقدير تكييف أسطورة كاساندرا إلى نموذج طوباوي، وكذلك إلى حالة من انتقاد الممارسة الشعريَّة للأسلوبيَّة المثيرة للشفقة، إنَّ التقييمات المضادة عادة لا تكون مبررة بشكلٍ كافٍ أو قريبة من فحوى النص.