صفحاتٌ لم تُكشف عن عبد الأمير جرص

ثقافة 2025/04/10
...

  أمينة ساهي 


عاش الشاعر العراقي عبد الأمير جرص حياة قصيرة، لكنها كانت حافلة بالكثير من الغصص المرّة والخذلان والأمجاد أيضاً، بعد موته كتب عنه من يدعون أنهم أصدقاؤه مقالاتٍ عديدة، لم أجد بها الشخص الذي أعرفه عن قرب، فهو ابن خالي وصديقي المقرّب منذ الطفولة، لذا وجدت لزاماً عليَّ أن أكتب هذه السطور، توضيحاً وإكمالا لسيرة عبد الأمير التي لا بُد أن تكتب كاملة ذات يوم.

فثمّة مسافة قصيرة سارها هذا الولد الحزين (1965 - 2003) ما بين مولده وموته المفجع في مغتربه، هذه المسافة كانت حقلَ ألغامٍ مخيفاً وأسلاكاً شائكة وخنادق آسنة، وكان عليه أنْ يعبرها ويظل نقياً نظيفاً وفياً للشعر فقط. وقد نجح في ذلك الاجتياز الشاق. 

لم تغره السلطة فلم يتقرّب لها، ولم يبع ضميره بثمن، على الرغم من أنَّ ذلك الثمن قد يكون حياةً أكثر أمانًا واستقراراً وربما نفوذًا وثروة. لكنه، كشجرةٍ شامخةٍ في أرضٍ تتشقق من العطش، ظلّ متجذرًا في مبادئه، لا يلين، ولا ينحني إلّا لله. فحينما حاول المقبور عدي صدام أنْ يستميله، لم يبع قصيدته، ولم يخن قلمه فضّل أنْ يواجه المصير الذي ينتظر كل من يقول "لا" في وجه الطغاة والقتلة.

وهذه السطور ليست مجرّد لمحاتٍ عن سيرة الشاعر، بل شهادة على زمنٍ كان فيه النبل جريمة، والشجاعة انتحارًا، والصدق طريقًا محفوفًا بالموت. ومع ذلك، سار عبد الأمير عليه، غير مبالٍ إلاّ بحبّه للعراق، ذلك الحب الذي لم يساوم عليه حتى اللحظة الأخيرة.

عمل عبد الأمير في جريدة الجمهوريَّة، التي كان يرأسها سعد البزاز، وفي نهايات عام 1996 لم يكن يدرك أنَّ خطواته بدأت تقترب من حافة هاوية لا قرارَ لها. فذات يوم، جاءه استدعاءٌ من عدي. كان مقدمة لمعاناته، أو لما هو أشدّ، لكنه ذهب متوكّلًا أمره لله، غير آبهٍ بما ينتظره، استقبله عدي بابتسامةٍ زائفة، وقال له بنبرة ماكرة: "نعلم أنك رجلٌ نزيهٌ، مبدع... ولهذا نريدك أنْ تساعدنا في أمرٍ مهم".

وكان هذا الأمر المهم هو (إرسال محتويات الجريدة قبل النشر) ليتمكّن من إحراج سعد البزاز أمام السلطة وتقليص نفوذه. لم يُجب عبد الأمير فورًا، لكنه أدرك أنه وُضع أمام خيارين: إما أنْ يخون شرف الوظيفة أو المواجهة.

في اليوم التالي، لم يرسل أي شيء لعدي . بل إنه أخبر سعد البزاز برغبة عدي لأنَّه لم يكن ممّن يبيعون ضمائرهم بثمن، ولم يكن ليطعن في الظل. فذهب سعد البزاز إلى عدي غاضباً، فردّ عليه عدي بسخرية: "والله عندك رجال يعتمد عليهم". وحينها أدرك عبد الأمير أنَّ عدي لن يغفر له.

بعد مدة ليست طويلة، أرسل عدي في طلب رعد بندر، وقال له: "علمتُ أنَّ صديقك عبد الأمير شاعرٌ معروفٌ ويكتب شعراً جميلاً. هل هو متدينٌ أو مهتم بالسياسة.. ولماذا لم يكتب عن البابا.. حتى الآن؟

فردّ رعد: "الذي أعرفه عن عبد الأمير أنه ليس متديناً ولا سياسياً، هو مجرّد شاعرٍ طيبٍ يكتب كلماته برقة وإحساس، ولكنْ كما تريد، سأبعث في طلبه وأتكلم معه.

بعد ساعاتٍ أرسل رعد يطلب من جرص الحضور وقال له بنبرة جادة جداً:

(أنت في خطر

سألني عنك عدي، لهذا أرجوك اكتب عن صدام قصيدة).

فطلب عبد الأمير منه أنْ يخبر عدي (أنَّ قريحته لا تساعده).

ولأنَّ رعد يعلم عاقبة الأمر، فقد قال له بشكلٍ واضحٍ وصريح: 

إما أنْ تكتب عن صدام أو أنْ تغادر البلاد. لا تبقَ هنا، لأنَّ عدي لن يتركك في حالك بعد الآن.

ولم يكتب عبد الأمير كلمة واحدة وقرّر أنْ يغادر البلاد. وعند الحدود، استوقفه ضابطٌ فلسطيني الأصل، وقال له: "لدينا أمرٌ من عدي، لا أحد يغادر البلاد من دون إذنٍ من عدي صدام حسين".

فنظر إليه عبد الأمير بحدة وقال له: (يا غريب، كن أديباً).

فما كان من الفلسطيني إلاّ أنْ ارتبك وختم جوازه، وخرج عبد الأمير إلى الأردن في 1997، ومن هناك إلى كندا.

وقبل وفاته بثلاثة أشهر فقط، حصل على جائزة كبيرة من اتحاد الأدباء والحكومة الكنديَّة. فاشترى سيارة وأرسلها للعراق، وأبلغ أهله أنَّه قادمٌ إلى العراق قريباً. وقد عزم على قضاء وقتٍ طيبٍ مع أصدقائه في رحلة للجبال قبل مغادرته كندا والعودة إلى العراق. وقد أصلح دراجته الخاصة بالجبال.

وفي الليلة التي تسبق الرحلة، جاء إليه رجلٌ من العراق لم يتعرف عليه أحدٌ من معارف عبد الأمير ولا من المقربين له. وتعالت الأصوات والصراخ والشجار والنقاش الحاد بينهما، ثم خرج ذلك الرجل. ولم يستطع أيٌّ من الموجودين الاقتراب من عبد الأمير في تلك اللحظة، إذ كان في أشد حالات العصبيَّة.

وفي الصباح، ركب دراجته التي أصلح مكابحها في اليوم السابق، وكان متأكداً من أنَّها في أفضل حال. وأخذ حقيبته وذهب في رحلة مع أصدقائه، لكنه شعر أنَّ المكابح قد تلاعب فيها أحدهم، ولم يستطع تدارك الأمر، فسقط على الأرض وارتطم رأسه بالاسفلت..

نقل إلى المستشفى فاكتشفوا أنَّه يعاني من نزيفٍ حادٍ في الدماغ، نزيف أدى إلى موته أو بالأحرى مقتله، إذ قتل بدمٍ باردٍ ولا يُعرف قاتله حتى الآن. وترك كلماته ودفاتره وأمواله تتناوشها أيدي من يسمون أنفسهم (الأصدقاء) فقد أخذوا كل شيء من غرفته ولم يتركوا له شيئًا سوى مجموعة من الأشعار وجدت في غرفة غسل الملابس ملتفة مع بعض ملابسه، ولو أنَّ أحدهم رآها لسرقها أيضًا. لم يسلم من لسان الناس ولا من أيديهم، حيًا وميتًا.

وهي ليست المرة الأولى التي يسرق فيها شعره! 

فقبل أنْ يعمل في "الجمهوريَّة"، كان جنديًا في الحلة، وهناك كتب قصيدةً ساخرة عن النظام، يطالب فيها بالحريَّة لشعبٍ يرزح تحت قبضة البعث كان عنوانها (طرطرة) تسلّل أحد الجنود إلى مكان نومه وسرق القصيدة، ليقرأها سراً بين الرفاق. لمح الضابط جنديين يتهامسان، ويضحكان وهما يطويان ورقةً ويضعها أحدهم في جيبه. انتزعها منهما بالقوة، ليجد أمامه كلماتٍ مخيفة ومرعبة.

فأدرك عبد الأمير أنَّ الوقت ينفد بسرعة. لذا لم يكن أمامه سوى الفرار. فلجأ إلى بيت أخته في الكوت وبقي هناك في غرفة في الطابق العلوي يكتب ويرسم. 

كان زوج أخته هو ابن خاله أيضاً يرسل من يأتيه بالأخبار سرّاً عن أمر الجندي وما يحدث له فقد كان زوج أخته رجلًا غنياً ذا نفوذ. كان رئيساً للمهندسين في وزارة النفط وأحد أعيان الكوت. فدفع مبالغ طائلة لضباط في الجيش ليتسنى له نقل عبد الأمير من الحلة إلى النجف، أما الجندي الذي سرق القصيدة فقد اعتقل واعترف بسرعة أنَّ القصيدة ليست له. 

وتحركت عشيرة الجندي سريعاً لإنقاذ ابنهم فدفعوا مبالغ طائلة للضابط ليمزق القصيدة، لينتهي الدليل ويمكن لحظتها الإفراج عن الجندي. 

وبعد محاولاتٍ عديدة وافق الضابط، وانتهت القضيَّة بسلام.

بعد أحداث 1991 ترك النجف وذهب مع أخته وزوجها إلى (بدرة وجصان) في الكوت حتى انتهت أحداث الانتفاضة، ثم عاد إلى بغداد، لكنه لم يعرف السكينة ظلّ يكتب، رغم معرفته أنَّ كلّ حرفٍ يخطّه خطوةٌ أخرى نحو حتفه.

قالت لي ذات مرة الدكتورة سليمة نور سلطان، حينما كنَّا طلاباً في الجامعة: كنا ننتظر قصاصاته بفارغ الصبر فكل يوم، تأتينا قصيدة، نجتمع لنقرأ في الخفاء. كانت نصوصه تلهب القلوب، تحثّنا على الوقوف بوجه الاستبداد، على الرغم من علمنا أنَّها أشبه بالمنشورات السريَّة قد تقودنا إلى الهلاك في أي لحظة.

في أحد الاحتفالات، وقف عبد الأمير وسط قاعة ابن الهيثم داخل كليَّة ابن رشد، يصدح بقصيدة تعرّي النظام وتفضح دمويّته. كان مطلعها: 

أطعت نفسي على نفسي وأعترفُ 

اني معي دائماً في الرأي اختلفُ.

وكان الجمهور يستمع بصمتٍ وخوفٍ وترقبٍ وكان عناصر الأمن من بين الحضور بكل تأكيد.

والقصيدة كانت تحوي الكثير من التوريات التي تفهم من بين سطورها وكانت فيها بعض الأبيات التي لم يستطع قراءتها، ولكن سمعتها منه مباشرة ولم يسمح حتى بكتابتها خوفاً علينا.

قال لي أحد أصدقائه المقربين جداً، وهو السيد هادي طاهر، والذي ما زال ينعى عبد الأمير إلى يومنا هذا لم يفارق الحزن قلبه أبداً لفراق عبد الأمير: كان يشتم صدام أمامنا في نادي الكليَّة وبصوتٍ عالٍ وبأكثر من مناسبة حتى راودنا الشك بأنَّه من عناصر النظام يريد استدراجنا. لكنَّ الحقيقة أنَّه كان شجاعاً جداً.

كان عبد الأمير، ينتقل بين المحافظات، يتصل بوالده بين الحين والآخر ليعرف إنْ كان رجال السلطة قد جاؤوا يسألون عنه. ظلّ متواريًا حتى تلاشى اسمه من ذاكرة الأمن، فيعود ليرى أهله.. لكنّه لم يعد كما كان صار ظلًا يمشي بحذر، وعينًا تترقّب الخطر. لكنه لم يتوقف عن الكتابة، ولم يتراجع عن كونه عبد الأمير، الشاعر الذي تحدّى الطغيان، وحمل وطنه في قلبه، حين لم يعد الوطن يتّسع له.