جولة في غرين بارك تكشف عن أسرار لندن

كاثي آدامز
ترجمة: شيماء ميران
كنت كثيرة السفر، وقد مررتُ بمحطة "غرين بارك" آلاف المرات حاملةً حقيبة سفر كبيرة اثناء انتقالي من خط اليوبيل (الممتد من ستانمور شمال غرب لندن الى ستراتفورد شرقا)، الى خط بيكاديللي (الممتد من كوكفوسترز شمالا الى ويست إند) وصولا الى هيثرو. تقع هذه المحطة الضخمة على أطراف حي "مايفير" الراقي، بين "بوند ستريت" وقصر "باكنغهام". ولكي ينتقل الركاب من خط "بيكاديللي" (الازرق الغامق) الى خط اليوبيل (الفضي) يحتاجون الى السير عبر ممر مزدحم خانق يربط بين الخطين، وعادة ما يعلقون خلف عربات الاطفال وحقائب السفر؛ مثلي تماما.
لكن خلال هذه المرات العديدة، لم انتبه ابدا للقرميد الهندسي الازرق والفضي الذي يزداد لونه تدريجيا الى الفضي كلما اقتربت من ارصفة اليوبيل. هذا ما يميز الانفاق، فهناك قصة دائما، وأحيانا نحتاج إلى خبير ليشرح ما يمر به الراكب بسرعة.
مؤخرا، ألقيت نظرة سريعة على أحدث جولة في "دوفر ستريت" والنزول الى "غرين بارك"، وهي الجولة الثانية عشر التي تنظمها "لندن الخفية"، أحد فروع متحف لندن للنقل التي تُدير الجولات الى الارصفة المهجورة والفضاءات العميقة تحت العاصمة، لإظهار دور شبكة الانفاق كجزء من تاريخ المدينة ومنها المطلة على محطات "بيكر ستريت" و"ميدان بيكاديللي" و"مورغيت".
تأخذنا هذه الجولة الى سكان لندن وهم يتجولون أسفل محطة "غرين بارك" بعشرات المترات والتي كان اسمها ذات يوم محطة "دوفر ستريت"، بغية تسليط الضوء على تاريخها الرائع، منذ ان كانت مركزا جديدا مطلع القرن العشرين، مرورا بعقد من التحديث السريع الذي شهدته لندن في ثلاثينيات القرن العشرين، حتى الفترة التي كانت فيها المكتب الرئيس للحرب (الحرب العالمية الثانية)، وصولا الى وضعها الحديث كونها إحدى اهم محطات مترو الأنفاق في العاصمة، التي تربط ثلاثة من الخطوط الاكثر ازدحاما. التجول تحت الارض داخل محطة "مايفير" يعني تتبع تاريخ لندن خلال القرن الماضي.
التقاطع الأكثر ازدحاما
التقى "كريس نيكس" مدير موقع "لندن الخفية" و"أيرن اوليفير" المدير المشارك خارج "ستارتا سي" المرتبط بموقع "غرين بارك" والذي يمثل مدخل المحطة، وهو عمل فني دائم لاحد فناني الاكاديمية الملكية "جون ماين". ثم دخلنا المحطة ونزلنا على السلالم المتحركة الى خط "بيكاديللي"، ثم الى باب سري وممر مغطى ببلاط باللون الازرق والاصفر الفاتح. ثم وقفنا على مجسر فوق رصيف "بيكاديللي" المتجه شرقا ونحن نلوح للاشخاص الذين ينتظرون الصعود الى " كوكفوستيرز"، إحدى ضواحي شمال لندن، عبر الشبكة المعدنية ونشاهد القطارات المسرعة تحت اقدامنا.
خلال العام 2023، مرَّ من خلال "غرين بارك" اكثر من 28 مليون رحلة ما يجعلها التقاطع الخامس عشر الاكثر ازدحاما داخل المدينة. وقبل أن يتحول إلى أحد أهم تقاطعات المدينة، كانت محطة "مايفير" الصغيرة تسمى "دوفر ستريت" على اسم الشارع القريب، وتشغل سكة حديد يربط بيكاديللي وبرومبتون من همرسميث الى ضاحية ساوث غيت. كان مدخل المحطة الاصلي الذي تشغله المصاعد فقط مصمم ببلاط احمر من تصميم "ليزلي جرين"، وسيتمكن المهووسون بالانفاق من تمييز المدخل والمخارج المقوسة من محطات خط "بيكاديللي" الاخرى مثل "ميدان راسل" و" كوفنت غاردن". وبسبب موقعها المتميز قرب فندق الريتز والبارك وقصر باكنغهام كانت مكتظة جدا بالركاب البريطانيين، ويوضح "نيكس" انه خلال العام 1933 (قبل الحرب العالمية الثانية) ولأن المحطة كانت بحاجة للتحديث اُضيفت السلالم المتحركة وتم تغيير اسمها إلى "غرين بارك".
إدارة الحرب من تحت الأرض
عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، كان المجلس التنفيذي لهيئة النقل في لندن يُنشئ مكتبه الآمن تحت اعماق الارض، للحماية من الغارات الجوية، حيث تعرف اليوم بخط "بيكاديللي". وعند الامعان بالنظر الى منفذ التهوية الذي كان يوما ما مطبخا، سنرى تركيبات على الحائط حيث تم تثبيت خزان دورة المياه، ما يُشير الى انه امر لا يصدق أن يكون عالم بأكمله بهذه الروعة موجود تحت الارض وبهذا العمق. حتى ان "اللورد اشفيلد" رئيس المجلس كان له غرفة كبيرة مغلفة بورق الحائط، وجميعها بعمق ثلاثين مترا تحت الارض، رغم ان البقية جميعها لها ذات البلاط. خلال فترة الحرب، كان العاملون ضمن المجلس التنفيذي لهيئة نقل لندن يتنقلون عبر خط "بيكاديللي" الى "برومبتون" المغلق اليوم لغرض زيارة مكتب اللواء المضاد للطائرات، او عبر محطة واحدة الى "داون ستريت" المغلقة ايضا لزيارة متب اللجنة التنفيذية للسكك الحديد من دون ان يرفعوا رؤوسهم إلى الاعلى. هذا التاريخ، هو السبب خلف تركيز جولات "لندن المخفية" على خط "بيكاديللي".
بدأت لندن بالتوسع نحو الضواحي ابان الحرب العالمية الثانية، ووصلت محطة "غرين بارك" الى اقصى طاقتها. وقد أضيف خط "فيكتوريا" عام 1968، ليربط "فيكتوريا" بـ"والثامستو" الواقعة شمال شرق لندن العام التالي. وبعد فترة اُضيفت محطة "بيمليكو" وهي الوحيدة التي لا تضم تقاطعا على الخط، حين تبرعت شركة "كراون ايستيت" بأرض لتحسين الوصول الى "متحف تيت البريطاني للفنون". وبحلول العام 1979، افتتح خط "اليوبيل"، واكتمل تطوير "غرين بارك" من محطة "مايفير" الصغيرة الى مركز النقل الرئيسي وسط المدينة. حتى انه من المستحيل ان يتفاداه المتوجه من وسط لندن الى مطار هيثرو.
اما اليوم، وعند التنقل خلال الجولة من المكان الذي كان ذات يوم يسمى "دوفر ستريت" الى القسم الحديث للمحطة، نقف وسط نفق تهوية يطل على رصيف خط فيكتوريا المتجه شرقا. ان الوقوف هنا ومشاهدة القطارات المسرعة الى الداخل يجعلك تبدو وكأنك واقف داخل نفق هوائي، فهو مكان يسترق النظر منه الى الركاب الذين ينتظرون الصعود الى "والتهامستو".. إن منظرا فريدا كهذا للمحطة يهز المشاعر.
كانت محطتنا الاخيرة هي النهاية الشرقية لمنصة خط جوبيلي، والتي تعرف أنك وصلت إليها ما أن يتحول الهواء الى شديد البرودة. ثم نسير عبر الباب إلى ممر تهوية عملاق ينحني 31 مترا الى الاعلى مثل ممر لولبي معدني عملاق يؤدي الى الشارع، وكل لوحة معدنية فيه لها أبعاد محددة ليعمل هذا الممر العملاق بشكل مثالي.
يقول نيكس": "كانت محطة غرين بارك في بداياتها متواضعة عندما كانت محطة دوفر ستريت، واليوم أصبحت تضم اثنين من أكثر خطوط مترو الانفاق المرتبطة مع بعضها. ولها اولوية عالية، وانت كراكب لا يمكنك رؤية سوى جزء بسيط منها" واثناء حديث "نيكس"، يضغط شخص في قطار فيكتوريا المتجه الى "والتهامستو" على زر الطوارئ وتبدأ الاصوات تتعالى على اجهزة الراديو، واصوات الركاب ويتوقف القطار، ما الذي يمكن ان يحدث اكثر في مدينة لندن؟.