علي حسن الفواز
ليس غريبا ألاّ يفكر السياسيون بتاريخ المدن، ولا بسيرها الرومانسية والثقافية، لأن حدود أفكارهم تتوقف عند الحافة المغلقة للسياسة، وعند اللحظة الزمنية التي لا علاقة لها بالمرجعيات، ولا بالتحولات الثقافية، ولا بالأسباب والصراع التي جاءت بالحروب إليها، بأشكالها المتعددة الوطنية والأهلية والقومية.
قد تكون بيروت من أكثر المدن وقوعا في فخ السياسة، وتورطا في حروب جعلتها إزاء مواجهات جغرافية وأخلاقية وعقائدية مع الاحتلال، مع العسكرة، ومع الكيان الصهيوني، الذي جعل من الجغرافيا مجالا ساخنا، ومن التفاصيل غارقة بالعنف، فهو ليس بعيدا عن الصراعات الأهلية عامي 1958 و1975، ولا عن دخول دبابات أرييل شارون سيئ الصيت إلى شوارع جنوبها عام 1982، ولا عن هزائم الكيان عامي 2000، و2006.
تظل ذاكرة بيروت الثقافية رهانا على الحياة، فهي شغوفة بالتجديد والانفتاح على الثقافات الإنسانية، وعلى الأفكار الجديدة، فكانت مجلات « الأديب» و»الآداب» و»شعر» و»حوار» وغيرها، فضاء لصناعة أسئلة صادمة للعقل العربي، وللسياسة العربية الشوهاء، التي وجدت في بيروت مدينة ساحرة للجمال، وللتفكير بطريقة مختلفة.
هذا الاختلاف هو الذي صنع مأزق المدينة وحروبها، ووضع ذاكراتها إزاء جحيم الحروب ومراثي العقل الطائفي، ليمتد إلى تعطيل عقلها الثقافي، تحت يافطات غريبة، وسياسات تحولت إلى ممارسات في الرعب والكراهية، لتتحول المدينة الثقافية معها إلى مدينة محاربة، وكأن الكيان الصهيوني يصر على إخضاعها إلى هذه التسمية، ليخرجها من خانة الرومانسية العربية، ومن يوميات جبران خليل جبران وإلياس أبي شبكة وميخائيل نعيمة وليلى بعلبكي وغادة السمان وديزي الأمير وأدونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج وغيرهم.
الإصرار على وضع بيروت في حقل المدن العسكرية، جعل من المندوبة الأميركية تكرر زياراتها، لكن على طريقة من يدخل إلى حقل للألغام، مع الترويج لأفكار تصر على تغييب الذاكرة الثقافية، والاستعادة الثقافية، والحديث عن «مدينة عسكرية» غامرة بمدونات الحروب، ويوميات الرؤساء العسكر الذين حملوا رتبة الجنرال، ليكونوا شهودا على أن المدينة هي مدينة حرب أكثر مما هي مدينة ثقافة، وأن الجنرال العسكري فيها يشاطر فيروز ووديع الصافي ونصري شمس الدين حكمها الرمزي.
إخضاع بيروت إلى التسمية العسكرية والطائفية جعلها تعيش عزلتها، وكأنها نوع من الاغتراب، والعزل الذي جعل من السياسة ترياقا طارئا لموت مسّ روحها الثقافية والتاريخية والسياحية والجمالية، حتى بات الحال وكأنه مرهون بسياسة الطائرات التي تفكر بالسطو عليها مثل أي لص ملعون، لغرض إخضاعها أو إجبارها على سماع نصائح لا علاقة لها بها، والهدف هو جرّها إلى لحظة سياسية عاطلة، ومعطوبة، لا يفكّر أصحابها إلا بعقلية الجنرال الذي ينظر للشعراء والساردين والمطربين وعارضي الأزياء وكأنهم جنود حرب، وعليهم أن ينضبطوا بالصف والإمرة والطاعة.