حسن جوان
تندرج أعمال الفنان الفوتوغراف محمد عكلة ضمن اشكالية أو حل اللوحة الفوتوغرافية. وهذا تناقض تقني بحد ذاته، وتحدّ لتاريخانية النوعين المشتغل عليهما، إذ إنّ اللوحة فقدت جزءًا من مساحة هيمنتها، أو بدأت في الانحسار رويدًا بعد اكتشاف الكاميرا، بعد أن خلفت إرثًا محترمًا لصالح تأسيس قادم، سيشمل لاحقًا فنونًا بصريَّة متشعّبة ليس أقلها ثقلًا وتأثيرًا فن السينما وما أفادت منه، واستندت إليه من قيم الإخراج والتكوين، والتوزيع الضوئي وصناعة المكان عبر مختلف الرؤى الحاضرة التي أسس لها عباقرة الضوء والظل في اللوحة عبر قرون من الدرس والملاحظات.
اعتماد الصورة مجددًا، كتأسيس أولي من أجل صناعة اللوحة هو نوع من المراهنة المضادة في عصرنا الحالي، لأنَّ اللوحة كأساس تقليدي كانت تطمح للوصول إلى اتقان الفوتوغراف أو التصوير الضوئي المبتكر، بمعنى أنّ العمل الفني عبر قرون، كانت تقاس جودته بقدر التحاقه بالنموذج الواقعي وقربه من مشاكلته ومشابهته، ومقياس الجمال آنذاك كان يحتكم الى معيارية الاتقان النموذجي للشكل المراد تصويره أو تجسيده عبر الفرشاة. نعم هنالك تجارب حاولت أن تبث في العمل الفني ما هو أكثر امتثالًا لحدود النموذج، ونتجت عن هذا ارهاصات كثيرة أغنت الفن التشكيلي والفنون المجاورة له. لكن المزاوجة الجريئة في اتخاذ منطقة اشتغال تراهن بدورها على اللعب الحذر في تخوم الجمال، إنّما هو يندرج ضمن تصنيف المغامرة الواثقة التي من شأنها أن تدّعي أنّها تشبه الركض حافيًا على صخور زلقة قرب البحر. إنّها منطقة وعرة، لكنّها جاذبة وتوّاقة.. فيها الكثير من الضباب والرغبة الطامحة، لكنها مستعدة للارتطام والضحك ونسيان الاخفاق.
خلال تصفّحي، ولنقل تتبعي وتجوالي المستمر في تجربة محمد عكلة المغايرة، وجدت الكثير من التأثير، ومن الكشف والتجريب. وجدته مسلحًا بالوعي الذي يدفع به كل مرة نحو الرهانات. لكنه يؤوب باقتناص زوايا تجنح إلى مداعبة لحظة أبديَّة يشعرُ بها من دون أن تنجده اللغة المباشرة ليبوح بها. هو يغفو ثم يصحو نشطًا ليتجه نحو مواقف سجلتها الكاميرا بحدس لا اسم له في وقته، لكن معوله الخاص، معول روحه، يحفر في مكان ما، مكان ظل يفكر فيه بصمت، ويبتسم. لكنّه يتحرّق متحالفًا مع صمت عدسته، ربما يبدأ يتفلسف لاحقًا حينما يفكر في صناعة لوحته التي كانت صورة في لحظةٍ ما. هذا مأزقه اليومي، ان لا يقف عند تخوم اللحظة العابرة، وحدود اللقطة التي صارت الكاميرا المتطورة هي بطلتها. هو يريد أن يكون بطلًا خارج معطيات العدسة السخيَّة. هنا يأتي.. هنا يبدأ من حيث ينتهي عادةً الآخرون. سوف يترك مئات الصور مركونة ومهملة، تنشد مجدها الذي تمخّض عن عدسة الآلة، هو يتوق ويحلم، وينتظر ما سيحلم به من إلهام، ما سيبقى ملحًّا، وما سيظل يتردد مثل الطرق منتصف الليل على ذاكرته. هناك سيحرك فرشاته- التقليديَّة او الرقميَّة- التي لن ترحم الصورة، تلك الصورة التي سبق أن أحبها كما هي. هناك.. سيصنع لوحته الفوتوغراف، التي ستعد لاحقًا، محنة وسؤالاً. إنّه اختيار خطير ومنطقة حفر واشتغال عنيدة، لكنها ممتعة ومبتكرة.ِ