أوروبا تُعيدُ حساباتها في مواجهة التهديدات النوويَّة المحتملة

فرانسز توسا
ترجمة: أنيس الصفار
وتائر إعادة التسلح في أوروبا آخذة بالتسارُع وهي تمضي عبر اتجاهات عديدة غير متوقعة، وقد كان آخر هذه الاتجاهات تقرير نشرته صحيفة "لوفيغارو" الفرنسيَّة مفاده أن الأمانة العامة للدفاع والأمن الوطني عاكفة حالياً على إعداد كتيّب جديد يتضمن نصائح وارشادات للمواطنين حول كيفيَّة الاستعداد إذا ما وقعت حالة اندلاع صراع، بما قد تحتمله من نشوب حرب نوويَّة.
هذا الكُتيّب، لمن يستطيعون تذكّر سِنِّي الثمانينيات من القرن الماضي، يُعيد الى الأذهان أصداء كُتيب مماثل اصدرته المملكة المتحدة (وتعرض للسخرية حينها) بعنوان: "أمن الحماية لنفسك واحفظ بقاءك". لم تنشر فرنسا كُتيبها بعد، ولكن الخبر يشي بالاتجاه الذي يذهب إليه تفكير الحكومات الأوروبيَّة حالياً.
خلال شهر تشرين الثاني الماضي قامت السويد بتحديث ارشاداتها لمواطنيها بشأن كيفية الاستعداد لحالة الحرب. يغطي هذا الكتيّب المكوّن من 32 صفحة، ونشر بعنوان "عند اندلاع أزمة أو نشوب حرب"، ما ينبغي عليك تخزينه داخل منزلك من مؤن ووسائل التحذير والإنذار العامة لتجاوز حالة الأزمة؟، وما ينبغي عليك توفيره حتى لحيوانك الأليف؟. بل إنّ الكُتيّب يتضمن ايضاً رابطاً للوكالة المدنية السويدية للطوارئ (وهي الجهة الناشرة للكتيّب) مع خارطة تفاعليَّة تظهر فيها مواقع ملاجئ الدفاع المدني لجميع أنحاء السويد.. رغم أن معظم المجمعات السكنية مزوّدة بملاجئ من هذا النوع. كان الإصدار السابق لهذا الكُتيّب يتضمن نصائح توجيهيَّة عن حرب العصابات إذا ما واجهت حالة إقدام العدو على عملية غزو.
الدول الاسكندنافية جميعاً، وعلى غرارها دول البلطيق، اصدرت لمواطنيها مؤخراً توجيهات مماثلة، فالدفاع عن التراب الوطني لم يعد مفهوماً مجرداً بل شأنٌ واقعيٌّ تماماً. أما الدول التي تشترك بالحدود مع روسيا، أو تحاذيها مباشرة، فهي تنظر الى هذا التهديد بمنتهى الجديَّة التي يستحقها.
كمثال على ذلك قيام السويد خلال العام الماضي برفع ميزانية الدفاع الداخلي من نحو تسعة مليارات كرون سويدي (650 مليون جنيه استرليني) الى 15 مليار كرون سويدي (أكثر من مليار جنيه استرليني) على امتداد أربع سنوات – ومن المحتمل أن تتسارع الخطى. من المقرر أيضاً أن يُخصص جانبٌ كبيرٌ من هذا الانفاق لشراء استعدادات ومؤن، كالأغذية والملاجئ والتجهيزات الطبيَّة، ولو أنَّ النسبة التي أنفقتها السويد على الدفاع الداخلي قد أنفقتها بريطانيا أيضا لكانت قد تجاوزت الميزانية المخصصة والبالغة خمسة مليارات جنيه استرليني سنويَّاً.
الدفاعات الجويَّة
ثمّة عنصر استعداد آخر لمواجهة حالة نشوب نزاع .. ذلك هو الدفاعات الجويَّة. إذ استثمر العديد من الدول الأوروبية المليارات من أجل الحصول على صواريخ أرض- جو متطورة، لا سيما نظام باتريوت الذي تمدّهم به الولايات المتحدة. فالقدرة الأساسية التي يتمتع بها هذا النظام تتجلّى فيما أثبته من إمكانية اعتراض نطاق واسع جداً من الصواريخ البالستية، علاوة على صواريخ كروز المتطورة.
عندما تحدث الرئيس الأميركي الراحل "رونالد ريغان" خلال ثمانينيات القرن العشرين عن انشاء درع دفاعي ضد الصواريخ السوفياتية تحت اسم "حرب النجوم"، تعرّض الرئيس للسخرية. وسبب ذلك هو ان الإمكانات العلمية والهندسية التي كانت سائدة آنذاك لم تكن قادرة بعد على إنجاز الرادارات أو الصواريخ او أنظمة السيطرة المؤهلة لتولي مثل هذه العمليات المعقّدة. بيدَ أن مقطع الفيديو لصاروخ من طراز "آرو3" وهو يعترض صاروخاً بالستياً وسط الفضاء، وكذلك التقارير التي توالت عن اسقاط السفينة الحربية البريطانية "دايموند" الصواريخ البالستية الحوثيَّة في البحر الأحمر، أثبتت ن جوانب عديدة من رؤية الرئيس الراحل ريغان غدت اليوم قابلة للتحقق.. ولو أنَّ الثمن باهظ للغاية.
تُرى كيفَ يمكن أن يكون عليه الحال بالنسبة للمملكة المتحدة، المفتقرة تماماً الى أي شكل من أشكال الدفاع الصاروخي أرض-جو المعتمدة (باستثناء عدد من المدمرات البحرية، اثنتان منها على وشك شد الرحال لتنفيذ مهمة إلى آسيا على بعد 13 ألف كيلومتر)؟ عند النظر الى برامج الدفاع الجوي لألمانيا، وكذلك لدول الخليج الغنيَّة، ندرك أن حصول المملكة المتحدة على نظام دفاع جوي صاروخي "عالي الأداء" ذي قدرة على التصدي لأنواع عديدة من الصواريخ البالستية وصواريخ كروز سيكلفها ما لا يقل عن 15 مليار جنيه استرليني كبداية. وماذا لو أرادت بريطانيا الحصول على نظام دفاع جوي صاروخي شامل متكامل؟، عندئذٍ سيتعدى المبلغ 25 مليار جنيه استرليني.
ببساطة نقول إنّ أيَّ سلاح قادر على اعتراض الصواريخ البالستية لن يتم بثمن زهيد- بيدَ أنَّ كلفة الأضرار التي يمكن أن يوقعها الصاروخ المعادي ستكون أبلغ بكثير. لذا يبقى الدفاع الصاروخي "الذي يكفل تغطية شاملة لمختلف الظروف والأحوال" مقبولاً لحين وقوع إصابات.
حالة المواجهة النوويَّة
مع ازدياد مخاوف التلويح بشبح المواجهة النوويَّة تبرز مسألة أخرى ينبغي أخذها بعين الاعتبار.. وهي الرادع النووي الأوروبي المستقل متعدد الطبقات.
تقول وزارة الدفاع البريطانية عبر موقعها على شبكة الانترنت: "الرادع النووي المستقل لدى المملكة المتحدة قائم على حاله منذ اكثر من 60 عاماً متصدياً لأعتى التهديدات الموجهة الى أمننا القومي وأسلوب حياتنا.. ما ساعد على ضمان سلامتنا وسلامة حلفائنا داخل حلف الناتو".
لكن كان هنالك دوماً عنصر من عناصر الردع البريطاني يخضع لتحكّم حلف الناتو. فرنسا من ناحيتها لم تفعل ذلك منذ عقود، رغم ان "إيمانويل ماكرون" كان أكثر انفتاحاً بكثير ازاء تبني باريس موقفاً مماثلاً لموقف المملكة المتحدة مع الاحتفاظ بقدرة ردع فرنسية مستقلة. وعند أخذ الردعين الستراتيجيين الفرنسي والبريطاني مجتمعين معاً يتوفر للناتو الأوروبي رادع نووي عالي المستوى، معتمد وموثوق بدرجةٍ ما، وعلى أعلى المستويات.
بيدَ أنَّ مكمن القلق الجدّي هو الردع النووي التكتيكي. إذ إنّ المملكة المتحدة قد تخلت عن أسلحة ردعها النووية التكتيكية (وهي رؤوس حربيَّة ذات أثر تدميري محدود يمكن إطلاقها بواسطة أنظمة صغيرة مثل قطع المدفعيَّة) وبذا تبقى فرنسا خلال الوقت الحاضر الدولة الأوروبيَّة الوحيدة التي تمتلك أسلحة نوويَّة تكتيكية خاصة بها. سلاح الردع الفرنسي اللاستراتيجي، المتمثل بالصاروخ ASMP الذي لا تكاد سرعته تتخطى سرعة الصوت ويطلق بواسطة طائرة مقاتلة قاذفة من طراز رافال، سوف يستبدل على مدى السنوات الخمس المقبلة بصواريخ أسرع وأبعد مدى.
بيدَ أنَّ الرئيس ماكرون أثار التساؤل مجدداً بشأن إمكانية وضع هذا الجزء من الردع الفرنسي– المظلة النووية– تحت خدمة أوروبا. فخلال خطاب ألقاه مؤخراً أمام قيادة القاعدة الجوية التي تؤوي الرادع النووي الذي يطلق من الجو أشار ماكرون الى إمكانية تمركز عناصر من هذا السلاح عند مواقع قريبة من ألمانيا مع إبقائها موجهة شرقاً.
أما باقي دول حلف الناتو الأوروبية فقد أعلن عدد منها عن استعداد قواته الجويَّة لحمل القنابل النووية التكتيكية التي تزوّدها بها (وتفرض ايضاً شروطها) الولايات المتحدة وإيصالها الى أهدافها. إذ تمتلك بلجيكا وألمانيا وإيطاليا وهولندا جميعاً طائرات خاصة قادرة على اداء هذه المهمة (بما ينسجم مع الشروط الأميركية). بيد أن الخلافات السياسية الحادة التي شهدتها الأسابيع الماضية جعلت العديد من هذه الدول تتشكك فيما إذا كانت الولايات المتحدة ستأذن بإرسال هذه الأسلحة إذا ما وقعت حالة نشوب أزمة داخل أوروبا وكان الخصم فيها هو روسيا.
الركون الى الولايات المتحدة
مسألة الوثوق بالولايات المتحدة في ما يتعلق بالأسلحة النوويَّة ترددت أصداؤها في المملكة المتحدة. فخلال المحادثات مع مصادر من وزارة الدفاع على امتداد السنة الماضية قوبلت مسألة ما اذا كانت واشنطن ستأذن بتحريك صواريخ ترايدنت النوويَّة (التي تعد رؤوسها النوويَّة جزءاً من سيادة المملكة المتحدة) الى بريطانيا بالسخرية. مع ذلك لم يعد من المسلّم به ان يستمر تمتع غواصات البحريَّة الملكية الحاملة للصواريخ البالستية من فئة فانغارد بإذن مضمون للدخول الى مخزونات صواريخ ترايدنت.
يتحدث الناس عن امتلاك الولايات المتحدة "زراً" لإطفاء الردع النووي البريطاني، رغم أن مثل هذا الزر لا وجود له داخل البنتاغون لإيقاف صواريخ ترايدنت البريطانية. لكن بريطانيا حيل بينها وبين والوصول الى مخزوناتها الصاروخيَّة، وحين لا تتمكن بريطانيا من اجراء تدوير منتظم لصواريخها تضعف فعالية تلك الصواريخ بمرور الوقت، وهذا هو "زر الإطفاء" الحقيقي المثير للقلق الآن.
ما الحل؟
تتحدث بولندا منذ سنوات عن رغبتها في الحصول على أسلحة نووية تكتيكية، بيدَ أنَّ تاريخ بولندا كان دائماً أما الوقوع تحت الهيمنة او تعرضها للخذلان والتخلي من قبل قوى أكبر منها، لذا تحرص وارشو على قراءة الدروس المستقاة من مفاوضات أوكرانيا التي أفضت الى تخليها عن مخزوناتها من الصواريخ والاسلحة النوويَّة. كانت ثقة البولنديين بفرنسا وألمانيا وبريطانيا ضعيفة من الأساس حتى من قبل غزو العام 2022، واليوم اهتزت ثقتهم بالولايات المتحدة أيضاً ولم يعد كافياً أن يعرض عليها استضافة أسلحة نوويَّة تكتيكيَّة أميركيَّة.
نخلصُ من هذا الى أنَّ ما من أحد يمتلك القدرة حالياً على وضع برامج للأسلحة النوويَّة التكتيكيَّة سوى المملكة المتحدة وفرنسا مجتمعتين معاً، والخبر السار هو ان هاتين الدولتين مشتركتان بالفعل منذ الآن بسلسلة من الاختبارات ووسائل التحقق بشأن الرؤوس الحربيَّة.
علاوة على هذا أعلنت المملكة المتحدة أنّها ستستأنف انتاج اليورانيوم عالي التخصيب، وهو المكوّن الأساس لصنع أسلحة نوويَّة تكيتيكيَّة جديدة. اليوم لم يعد بناء جيل جديد من الرؤوس الحربيَّة التكتيكيَّة أمراً مستبعداً، وهناك مجموعة متنوعة من الخيارات في ما يتعلق بالصواريخ الحاملة لهذه الرؤوس.
يبقى السؤال بالنسبة للمملكة المتحدة منصباً على ما إذا كان الاعتماد على الولايات المتحدة بشأن صواريخ ترايدنت الستراتيجية قد انتهى بالفعل. وإذا كان الوثوق بالولايات المتحدة قد بلغ هذا الحد من التدني، فهل ستعمد المملكة المتحدة الى البدائل؟.
تحدث مصدر ذو صلة بالمشروع النووي البريطاني فقال: "إذا كنا ننوي استبدال ترايدنت بالصاروخ البالستي الفرنسي أم 51 الذي يطلق من الغواصات فما من وقت لذلك أنسب من الآن، لأننا لا نزال في مرحلة مبكرة من برنامج دريدنوت تتيح لنا تحقيق ذلك".
كل هذا تقريباً كان بعيداً عن التصور الى ما قبل ستة أشهر.. كذا هي سرعة تحرك الأحداث. فلو أن أحداً اقترح حينها أن على الحكومة البريطانية إصدار كُتيّب عن بناء ملجأ خاص بك تحت منزلك لتعرّض للسخرية. لكن دعنا اليوم ننظر شرقاً وسنرى أن هذا هو عين ما تفعله أكثر من عشر دول، وكان هو شغلها الشاغل طيلة أكثر من عام.
كانت حكومة المحافظين السابقة قد بدأت النظر بإصدار مثل هذه الارشادات بشأن ما ينبغي على كل أسرة أن تخزنه من احتياجات لضمان قدرتها على "الصمود" بمواجهة الكوارث الطبيعيَّة، الذي سيكون صموداً أيضا بوجه الصراعات. من بين تلك الاحتياجات: جهاز راديو قابل للشحن يدوياً بتدوير عتلة ومصابيح تثبت على الرأس وكمية من الماء. حينها كانت ردة الفعل الأوسع شبيهة جداً بما تعرّض له كتيّب ثمانينيات القرن الماضي الذي حمل عنوان: "أمن الحماية لنفسك واحفظ بقاءك".
عن صحيفة الإندبندنت البريطانية