الفلسفة العربيَّة.. النشوء والارتقاء

ثقافة 2025/04/16
...

حازم رعد

نعني بقولنا (فلسفة عربيَّة) هي مجموعة القضايا والإشكاليات والمسائل المتصلة بالسياق العربي والإسلامي [الثقافي والتاريخي واهتمامات الحاضر] لأن كل فلسفة لابد وأن تكون نتاجاً طبيعياً لسياقها وبيئتها فالفلسفة روح عصرها وتعبير حقيقي عن المناخ الناشئة فيه فهي وبلا شك متأثرة بما يحتويه ذلك المناخ من عناصر ثقافيَّة ودينيَّة وتاريخيَّة وما إلى ذلك شرط أن تكون "أي الفلسفة" مبحوثة بطريقة عقلية وهناك من يضيف وصف (اللغة) كحدٍّ معرِّف لها يقول علي بن مخلوف في كتابه لماذا نقرأ الفلاسفة العرب ( الفلسفة لقاء وهذا يبرز الجانب غير الدوجماطيقي للفلسفة مواجهة بين الأفكار والآفاق والتراثات هذا هو الأساس المشترك للفلسفة العربيَّة ) وأتاحت العربيَّة للمهتمين بالفلسفة والعلوم والترجمات أن ينهلوا منها ما هم بحاجته وما يتوافق مع ثقافة تلكم البلدان التي تتحد تحت عنوان "الإسلاميَّة" وعادة ما تقسم أدوار الفلسفة العربيَّة إلى اثنين هما: 

- النشأة وتشتمل على مرحلتين النقل والتحضير

- دور الإبداع وأيضاً يشتمل هذا الدور على مرحلتين هما التفلسف والتصنيف.

ونحن الآن بصدد الشروع بعرض أدوار الفلسفة العربيَّة على أن يكون بشكل موجز حتى يتناسب مع المقام، كان مبتدأ دور نشأة الفلسفة في العالم العربي متصلاً بإعلان الإمبراطور الروماني جستنيان الحرب على الفلسفة فأمر بإغلاق الأكاديميات والمعاهد والمدارس الفلسفيَّة فشمل ذلك أثينا والإسكندرية وغيرها من المدن التي كانت تحتضن الدرس الفلسفي وتم على إثر ذلك إحراق الكتب الفلسفيَّة ومطاردة الفلاسفة، يقول عمر فروخ في كتابه تاريخ الفكر العربي (ثم جاء يوستنيانوس الأول واضع الشرائع والقوانين المشهور فأغلق مدارس الفلسفة في أثينا سنة 529 مرة واحدة وهكذا كانت الفلسفة منذ بناء الإسكندرية تسير مشرقة حتى أغلقت مدارسها في اليونان "فانتقلت إلى الشرق جملةً") فكان ذلك الحدث إيذاناً للفلاسفة للهجرة إلى الشرق المنطقة التي كانت تختلف جذرياً عن الجغرافيا التي يسيطر عليها الإمبراطور ولعلَّ مجيء أولئك الفلاسفة إلى منطقة الشرق يعدُّ بواكير دخول الفلسفة وانتشار أفكارها في المشرق التي كانت بعد لم تتعرف على هكذا لون من التفكير (وأنا الآن لست بصدد الادعاء أن أولئك المتفلسفة قصدوا عن عمد إيصال الفلسفة إلى عالمنا الشرقي كاهتمام منهم) وإنما اضطرتهم تلك الظروف القاسية التي تكلمنا عنها بسبب تحالف جستنيان مع الكنيسة المسيحية والاتفاق على معاداة الفلسفة إلى الوصول فوصلت معهم أفكارهم وانتشروا في مناطق نصيبين والرها وجند نيسابور وهذا الحدث يعدُّ تمهيداً غير مباشر للتعرف على نتاجات الفلاسفة الإغريق من قبيل سقراط وإفلاطون وأرسطو وهيراقليطس وفيثاغورس وسواهم. 

إنَّ مرحلة التحضير الفعليَّة لنشأة الفلسفة في بلاد الشرق كانت نتاج بدء حركة الترجمة لكتب اليونان وإن مبتدأ هذه الحركة كان إبان سلطان الأمويين حيث دعت الحاجة إلى ترجمة كتب الطب والفلك إلى الالتفات لأهمية الترجمة والتعرف على نتاجات العالم الآخر ( ومما يدل على تفهم العرب للحركة العظيمة التي كانوا يقومون بها أنهم بدؤوا أول ما بدؤوا بكتب العلم العملية لا بكتب الفلسفة النظريَّة لقد كان العرب في أول أمرهم بحاجة إلى كتب الرياضيات والفلك لتعيين مواقيت الصلاة والصوم والحج وإلى كتب الطب لإصلاح أبدانهم فبدؤوا بنقل هذا النوع من الكتب أولاً ولما كثرت لديهم كتب العلوم اتجهوا صوب كتب الفلسفة النظريَّة ليتمموا أداء رسالتهم الثقافيَّة) كما يقول عمر فروخ في كتابه تاريخ الفكر العربي، وعملية الترجمة تدلل بكل وضوح عن إرادة حقيقية في التعلم وتطوير الذات والكيان العام "العالم العربي/ الإسلامي، والتمازج ما بين الثقافات المختلفة، وأخذت هذه الحركة "الترجمة" تتوسع شيئاً فشيئاً حتى وصلت أوج ازدهارها مع دولة بني العباس وتحديداً مع الخليفة المأمون العباسي الذي لعب منامه "الحلم" دوراً في التعرف على أرسطو طاليس والفلسفة عموماً فاحتضن العلماء والفلاسفة والترجمان وأغدق عليهم بالعطاء وجعل بيت الحكمة في بغداد مكاناً أشبه بالأكاديمية للاجتماع فيه ونقل الترجمات المختلفة من "اللغة اليونانية إلى السريانية ثم إلى العربيَّة ثم صار النقل من اليونانية إلى العربيَّة مباشرة" يقول علي بن مخلوف في كتابه "لماذا نقرأ الفلاسفة العرب (حلم المأمون الخليفة العباسي الذي أطلق حركة ترجمة واسعة للكتابات اليونانية إلى العربيَّة هذا الحلم هو إخراج فلسفي حيث يحلم خليفة بفيلسوف وهو أرسطو الذي يربط في نصائحه للخليفة الأخلاق بالعمل).

ومن الجدير أن نذكر بعضاً من الذين تولوا هذه المهمة فمنهم آل بختيشوع من أولاد جرجيوس السرياني النسطوزي، وآل حنين حنين بن إسحاق شيخ المترجمين وهو من نصارى الحيرة وحبيش بن الأعسم الدمشقي وقسطا بن لوقا البعلبكي وآل ماسرجويه اليهودي، وآل ثابت الحرّاني من الصابئة وأبو بشر متّى بن يونس ويحيى بن عدي واسطفان بن باسيلي وموسى بن خالد, وكذلك جرت ترجمات عديدة من الفارسية إلى العربيَّة فمن الذين اشتغلوا على هذه المهمة من أمثال ابن المقفع وموسى ويوسف ولدي خالد.

وعلي بن زياد التميمي والحسن بن سهل والبلاذري أحمد بن يحيى و إسحاق بن يزيد، وصارت بغداد ملاذاً آمناً للعلماء والمفكرين وصعدت وتيرة النقاشات الفكرية والجدل العلمي وانتشرت مجالس الأدب والفلسفة في داخل الفضاء الإسلامي العام يقول الأستاذ حسين نصر في كتابه ثلاثة حكماء مسلمين (بغداد التي أصبحت من أعظم مراكز التعليم إبان الخلافة العباسية ثم أنها تفوَّقت في الفلسفة والعلوم التي أصبحت مُتاحة باللغة العربيَّة وسعت إلى تكاملها في المنظور الإسلامي) وظهرت أسماء لها أهميتها وجلالتها على مسرح الحدث الفلسفي نظير فيلسوف العرب الكندي والفارابي ويونس ابن متى كما نشطت جماعات فلسفيَّة وكلامية وأخرى تعتمد العقل وتقدمه على النصِّ كما هو الحال مع المعتزلة في البصرة ثم في بغداد وجماعة اخوان الصفا وخلّان الوفا في البصرة، وأخذت الفلسفة تتطور تدريجياً وذلك من خلال إدخال عناصر وموضوعات جديدة عليها ومن خلال النقاشات التي تحصل على هامش المشكلات والقضايا العربيَّة والإسلاميَّة فكثرت الآراء وتعددت الأدلة والحجج واتضحت المنهجيات، ثم صارت للفلسفة العربيَّة موضوعاتها الخاصة بها وليس كما يقال بأنها عالة على الفلسفة اليونانية بل جرى فيها فعل التجديد وأبدعت فيها موضوعات ومفاهيم وحدود لم تكن من قبل موجودة أساساً فلم تعد الفلسفة كما كانت عندما نقلت عن اللسان اليوناني والسرياني بحيث أنها تقتصر على الموضوعات الرتيبة التي بحثت سلفاً وإنما تطورت وصار لها فضاؤها ومنهجها وموضوعاتها ولعل قضايا الميتافيزيقا كانت تتصدر مشهد الحدث الفلسفي العربي/ الإسلامي من قبيل التعرُّض لموضوعات (الله وأصل العالم والمصير والسياسة والأخلاق) والعلاقة بين تلكم الموضوعات الغنية بالأفكار والآراء وصار للفلسفة العربيَّة كيانها المميز لها والذي تعرف به، يقول أحمد برقاوي في كتابه العرب وعودة الفلسفة (ناهيك عن أن المشكلة الفلسفيَّة مشكلة مفتوحة ويعاد إنتاج القول فيها تاريخياً فضلاً عن تلك المشكلات التي تبرز بالضرورة بوصفها ثمرة تغير الأفعال والأحوال ) فالفلسفة العربيَّة لها بحثها الخاص في مسائل تشغل السياق العربي والإسلامي فهي ليست منعزلة عن سياقها سواء كان متعلقاً باللاهوت والميتافيزيقا والسياسة المدنية والمشكلات التي تضرب المجتمع والأفراد وهذا ما سنبينه في مقالات أخرى تتبع إن شاء الله، بل إن هذه الفلسفة "العربيَّة" قادرة على إنتاج موضوعاتها وإنضاج بحثها وأفكارها وفقاً للسياقات التاريخيَّة والثقافيَّة والسياقات الراهنة من قبيل مفاهيم "الأمة والاتحاد والقضايا الكبرى للأمة العربيَّة" فهي فلسفة ثريَّة وتعيد لنا في كل مرحلة إنتاج أسئلة جديدة وموضوعات مختلفة.