(تعلموا، فالعلم مفتاح العلى، لم يبقِ باباً للسعادة مغلقاً... ثم استمدوا منه كل قواكمُ ان القويّ بكل أرض يُتقى).. هكذا قال حافظ إبراهيم، وهو يحث الشعب على التعلم، ولا شك، ان مَن يريد ان يتعلم، يحتاج الى ظروف وبيئة مناسبة للتعليم، والتعليم في الصغر، مثل النقش في الحجر، ووفق هذه الرؤية والمفهوم، تضع الدول المتقدمة خططها بعيدة المدى للنهوض بواقع التعليم بوصفه الركيزة الأولى والمرتكز الأساس لتحقيق التنمية، ففي اليابان مثلا، لا يقتصر التعليم على إرسال الأطفال الى المدارس، بل يسبقه تعليم منزلي واجتماعي، وحتى يتم زج الأطفال في دورات استطلاعية في الشركات العامة، اذ من المحتمل ان تكون لدى الطفل ميولٌ معينة يكتشفها في نفسه عند زيارته لهذه الشركة أو ذاك المصنع، فضلا عن كسر حاجز الخوف والخجل وبناء شخصية جريئة غير مهزوزة.. أما الدراسة في المدارس الابتدائية وما قبلها وما بعدها فوضعها مختلف في تلك البلدان، اذ يجد التلميذ كل شيء متوفراً، وبالتالي ينشأ في بيئة سليمة متكاملة، وعندما يدخل الى معترك الحياة، يدخل مُنتِجاً معطاءً يمتلك القدرة على الإضافة والتحسين، وهذه هي أهداف التنمية المستدامة.. ودعونا نترك الحديث عن واقع بلدان اخرى لا تشبهنا في شيء، ونتحدث عن واقعنا والتفكير في آليات المعالجة، ولن نشير هنا الى التعليم الاجتماعي أو التدريب في الشركات، وأنْ تكون الصفوف أنموذجية، وإنْ كانت تلك الأمور من المتطلبات الأساسيَّة للتعليم، إنما نريد أنْ نجد علاجاً ناجعاً للواقع التربوي والتعليمي في العراق، وواحدة من أهم المشاكل والتحديات التي تعصف بهذا الواقع، هي النقص الحاد في الأبنية المدرسيَّة، إذ تشير التقديرات الى أنَّ حاجة العراق من المدارس لا تقل عن ١٠ آلاف مدرسة في الوقت الحالي، وهذه الفجوة قابلة للاتساع بلحاظ الزيادة السكانية التي لا تقل عن مليون إنسان سنوياً!، ويضاف لهذه الفجوة، حالة التقادم والتدهور الشديد في عدد غير قليل من الأبنية المدرسية، فضلاً عن مشهد المدارس الطينية الذي ما زال يشخص في بعض المحافظات.
ولا نريد أيضاً أنْ نثير إشكالية جدلية عمَن هو السبب وراء هذا التدهور في الواقع التربوي، فالحديث في هذه الجزئية سيطول، ولا طائل من ورائه، فمَن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت -كما يقول قس بن ساعدة- إنما السؤال، كيف يمكننا معالجة المشكلة، وتوفير الأبنية المدرسية الكافية في عموم البلاد؟.. هل الحكومة قادرة لوحدها على التصدي للمشكلة؟.. طبعا، ينبغي ان تكون قادرة فهذه من مهامها الأساسية، ولكن في ضوء المعطيات الموجودة، فان الإمكانات المتوفرة لدى الحكومة مع اتساع الفجوة، غير كافية في بحر ثلاث أو حتى خمس سنوات لتجسير الفجوة، إذا كان معدل البناء ينتج ١٠٠٠ مدرسة سنوياً، وهنا سنكون بحاجة الى ١٠ سنوات لمعالجة الواقع بوضعه الحالي، من دون الأخذ بنظر الاعتبار ان ١٠ ملايين إنسان سيأتون الى سطح العراق.! وهنا فإنَّ المشكلة ستتفاقم بنحو مرعب.
إذن ما الحل؟. الحل يكمن في عدة مسارات، المسار الأول يأتي من خلال تخصيص أموال جيدة ضمن الموازنات السنوية وتكون مسماة (لبناء المدارس) حصراً، لكي لا يتم تحويلها الى مفاصل أخرى، والمسار الثاني وهو ثيمة هذا المقال، أنْ يتم إطلاق حملة وطنية لبناء المدارس تشترك فيها جميع مفاصل الدولة (السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والحكومات المحلية في المحافظات والاتحادات والنقابات ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية والفعاليات الاجتماعية، والقطاع الخاص.. إلخ) بحيث تتولى كل جهة من هذه الجهات اقتطاع جزءٍ من تخصيصاتها أو إيراداتها السنوية وتخصصها لبناء عدة مدارس، على ألا تتوقف هذه الحملة عند سنة واحدة، ولا مانع من أنْ يتم اختيار أسماء المدارس المشيدة من قبل الجهات التي قامت بتنفيذها، كما أنَّ العمل ينبغي ألا يتوقف عند البناء وحسب، إنما ضرورة أنْ يكون البناء مع التجهيز الكامل للمدرسة، ومن الضروري جداً ان تسبق هذه الحملة الوطنيَّة، حملة توعويَّة بأهمية المبادرة ودورها في حل المشكلة، من قبل المرجعيات الدينية أو وسائل الإعلام المختلفة، فلو قامت كل وزارة أو جهة غير مرتبطة بوزارة او محافظة أو اتحاد أو نقابة أو أي فعالية أخرى ببناء مدرسة واحدة الى ثلاث مدارس، من خلال تحويل جزء من تخصيصاتها أو إيراداتها الى الصندوق الذي سيتم تأسيسه لهذا الغرض وتحت مسمى الصندوق العراقي لتمويل الحملة الوطنيَّة لبناء المدارس، أو أي مسمى آخر، ويستقبل هذا الصندوق أيضا المُنح والقروض الدولية المقدمة للعراق لأغراض بناء المدارس، لاختلف الواقع كثيراً.
أعتقد أنَّ هذا المقترح لو جرى تفعيله، فسيسهم في التخفيف من المشكلة، التي لم يعد بالإمكان غض الطرف عنها، بعد أنْ أصبحت المدرسة الواحدة ثلاث مدارس! ويجلس في الصف الواحد أكثر من ٦٠ طالباً في بعض المدارس، فأي مستوى تعليمي ننتظره في ظل ظروف بهذا المستوى من القسوة؟.. الواقع التربوي بحاجة الى هزه عنيفة لانتشاله مما هو فيه.