يشير دوركهايم الى أنَّ حلول المقدّس في الحياة العامة يؤدي وظائف كبيرة في تحقيق وحدة وتماسك هذا المجتمع، لقد نتج عن عملية التفاعل هذه (بين المقدّس والاجتماعي) ظاهرة التديُّن. ويشير ماكس فيبر الى أنّ من وظائف الديني في الحياة الاجتماعية هو منح قوة حيوية للاقتصاد وجاء كتابه الأهم (الأخلاق البروتستانية وروح الرأسمالية) ليثبت كيف ان هذه الاخلاق والممارسات الدينية البروتستانية هي من عملت على ظهور الرأسمالية في العالم؟.
ويصف عالم الاجتماع الألماني جورج زيمل العملية الدينية بأنّها الصراع الدائم بين الروح (جوهر الدين وهو الإيمان والاخلاق) والشكل الذي هو مظاهر تديّنية اجتماعية هدفها الاستحواذ وتحقيق المصالح وبسط النفوذ، وهو ما يظهر جليا في الأشكال الجماعية للدين كالمؤسسات والتنظيمات الأيديولوجية والحزبية الدينية، على عكس المعاني الرمزية التي يتمسك بها المتدين كفرد. لذا فإنّ زيمل يذهب الى ان سيادة التدين الشكلي الذي افرغ من محتواه الروحي والرمزي هو المسؤول عن الاستغلال السيء للدين، والذي يعد التطرّف أحد أنواعه السيئة جدا.
اما عن وظيفة المقدّس داخل حقله (الدين) فتتمثل باعادة انتاجه باستمرار من خلال المؤسسة الدينية التي تجعله جاهزا للاستعمال والتداول كأية سلعة ثقافية. عملية التجهيز هذه تأتي عبر الكثير منها ما هو ممتلكات رسمية للمؤسسة الدينية مثل المسجد وبعض المدارس والجامعات التي تتخذ من الدين مادة تخصصية وادارة بعض المزارات والمراقد. أما الممتلكات غير الرسمية للمؤسسة الدينية فجزءٌ منها مرئي مثل درس مادة التربية الاسلامية في نظام التعليم بالدول الاسلامية وطلب الفتوى، وجزء منها ما هو غير مرئي يتعلّق ببعض انشطة التدين الشعبي والاشراف على بعض الطقوس الدينية... وغيرها. ومن هنا يمكن استنتاج نقطتين مهمتين، (اولا) أن هذه الممارسات والانشطة والمجالات انتجت ليس فقط نخباً، بل فاعلون يديرون عملية (التدين) تلك وينظمون علاقتها بين الجمهور (متدين) وبين المجتمع بشكل عام والحكومة. وخلال اشرافهم على هذه العملية التي تشبه عملية ادارة رأس المال، ولكنه في هذه الحالة رأس مال رمزي معنوي (لا يخلو بطبيعة الحال من جانب مادي نقدي) يراكمون من رأسمالهم الشخصي، فيصبحون من رموز المجتمع وينتشر اتباعهم داخل التنظيمات الاجتماعية والمؤسسات. بعض رجال الدين بلغوا من القوة أن الحكومات تتملقهم، وصار تمكنهم من الفضاء العمومي يفوق نفوذ باقي مؤسسات المجتمع الأخرى والمؤسسسات الحكومية مع بعض. (ثانيا) ان دورة رأس المال الديني هذه لا يمكن ضبطها فقد تحدث اختلالات في العلاقة بين مصادرها الرئسية الثلاث (المنتج، والسوق، والمستهلك) فتظهر بعض الانشطة الدينية حالات من التطرف، وبين فترة واخرى يتفاجأ العالم بظهور تنظيم مسلح، أو حدوث عملية ارهابية تزعزع آمن المجتمع. ظهور مثل هذه التنظيمات في المجتمع الاسلامي لم ينقطع ابدا، سواء كان هناك تدخل خارجي او لم يكن.
السوق الدينية سوق قديمة وبضاعتها رائجة سواء كان على مستوى التدين الفردي أو على مستوى التدين الجماعي الحزبي والأيديولوجي، فهذه السوق تهدف الى ابتلاع المجتمع وتحويل مؤسساته الى بيئة دينية خصبة لانتشار الظاهرة الجهادية او ولادة الجهادي بكلا نوعيه، الجهادي الفرد و(الجهادي) النسق.
خطاب الجهاد هذا يبرر وجود ذلك النسق فلسفيا بواسطة مجموعة من العبارات التي لم يختبر صدقها ومقولات قبلية (مثلا: الاسلام دين الفطرة، الاسلام هو الحل). هذا الفهم الاسلامي ليس بحاجة لتأويل حتى ينتج العنف والتطرّف، فهو مدرج ضمن جدلية تطور الاجتماع الاسلامي تاريخيا وبنيويا.
ينطلق فهم منظري الاسلام السياسي والفاعلين الدينيين في المجتمعات العربية والاسلامية بوصفهم يمثلون المحرّك الأساسي لفكرة أن الاسلام دين ودنيا، وهم من حولوا الجهاد الى استمرار (سياسي) للدور الروحي للدين، وما التكفير وجاهلية المجتمع وانحرافه والحرب إلّا انعكاس مباشر للرسالة السماوية في مرآة السياسة. لذا تتبنى جميع اصناف الاسلام السياسي العنف كستراتيجية لإصلاح هذا العالم، كما ترى هي. هنا اصبح لدينا كينونتان انسانيتان مختلفتان، الأولى دينية منغلقة تقوم بالضد من الثانية التي هي كينونة الانسان الروحي (اما الانسان الحر فليس لدينا كينونة بهذا الاسم في العالم العربي والاسلامي لانتفاء شرطي الحرية والفردية). الفاعلون الدينيون بما يملكونه من ادوات ومواهب وقدرات، وبما يحتلونه من مكانة في المخيال الديني الشعبي والاجتماعي فهم يسهمون بشكل فاعل في انتاج التطرّف، فقد يقومون بتوجيه العملية الدينية (دين/ تدين) نحو جهة ما، مستثمرين رأس المال الديني لعملية توسع من دائرة مستهلكي بضاعتهم. تنظيم القاعدة وداعش من بعده كان من اكثر التنظيمات حرصا على دعم سوق الجهاد العالمية، وفتح فروع له في مناطق نائية من العالم (الساحل الغربي لأفريقيا، دول اوروبا، الفلبين).
لهذا ظهرت وجهتان مختلفتان في النظر الى التطرّف، الأولى تقول بان التطرّف ناتج عن اختلال وظائفي في علاقة المجال الديني/ التديني بالمجال الاجتماعي السياسي (وهنا يتصاعد دور الفاعلين في توجيه هذا الخلل باتجاه التطرف). أما وجهة النظر الأخرى فترى أن التطرّف هو الناتج الطبيعي لتراكم رأس المال الديني في مجتمع يدين بالإسلام ويجعله اساسا لاجتماعه ومصدر التشريع الأول، وهو ما ينطبق على الدول العربية والاسلامية. وهذه النظرة تقول لو أننا تركنا الدين الاسلامي وحده فإنّه سينتج التطرّف، وسيمتلئ الفضاء العمومي برموز التطرّف ويقود المجتمع الافراد المتشددون، وهذا ما يجعل الصدام الحضاري بالغرب يأخذ طريقا عسكريا وليس ثقافيا فقط.
لقد اظهرت نتائج الربيع العربي في اغلب الدول التي حدث فيها صعود قوى اليمين الاسلامي المتطرّف، إذ انتج المجتمع - بوصفه مجتمعا متديّنا- قيادات اسلامية، ولو بقيت مدة اطول من الزمن كما كشفت مخططاتها فانها ستعمل على اعادة بناء المجتمع وفقا لمفاهيم الجهاد والتكفير والبراءة، وتأخذ على عاتقها نشر الدعوة. وهذا ايضا ظهر في افغانستان بشكل جلي، وإيران، واي دولة قامت على اساس ديني.