حسين الذكر
في ظاهرة لم أعتدها من قبل، خرجت ضحى يوم الجمعة للسوق الشعبي فوجدته غاطاً بالبنكلاديشيين بصورة طاغية يصطبغ فيها جو السوق العام بلونهم
، فاضطررت سؤال أحد البقالين، فقال: (أصبحنا نسميه سوق البنكلاديش، في تعبير واضح عن حضورهم المكثف كل يوم جمعة والتبضع
، كما أنه تحول الى شبه ملتقى ودي لهم بعد عناء أسبوع من العمل)، فذكرني المشهد أيام الثمانينيات حينما تحولت بعض مناطق بغداد الى ما يمكن ان نسميه مربعة ومرتعة لبعض الأشقاء العرب آنذاك، قبل ان تنقلب السلطة عليهم أو ربما انقلبوا هم بأجندات
معينة.
تيقنت من خلالها أنَّ الأسواق والعمال والهجرة والهجرة المعاكسة لا تخلو من جنبة سياسية بحتة.
كان شاباً جميلاً أحسست به وأحببته كأنه (ولدي) بدا نحيفاً بسمرة تشع مضامين الصبر والصمود، لكنه قوي عزيز واثق الخطوة، يدفع عربة محملة بقنانٍ بلاستيكيَّة، دفعني الفضول لسؤاله، فقال: (أبيع عصير التمر هند) - هي مهنة شعبية عراقية ينتشر أيام الصيف ويشرب لحلاوته وبرودته فضلاً عن علاجاته كما يقول مختصو
الأعشاب -.
ثم أضاف: (أنا من الناصرية – مدينة عراقية عريقة تتحمل ضيم ولصوصية دكتاتورية وديمقراطية غير منقطعة – مع أصدقائي أغلبنا خريجون بلا عمل متزوجون واضطررنا للوصول الى بغداد والسكن في شقة بصورة تكافلية نخرج صباحاً كل بعمل معين على باب الله ونجتمع لنوم ليلنا الطويل).
شبت نار السؤال في أحشائي، أحقاً هذا مشهد من زمن كنا ننتظره وضحينا من أجله الكثير؟ فعلا هؤلاء من أبناء جنوبنا الذي عانى السجون والزنزانات والمقابر الجماعية وتحمل بصبر تبعات الحروب والحصار والجوع والقهر والظلم والاستبداد، أبعد كل تلك السنوات العجاف يكون هذا المشهد
بديلاً.
قبل أيام استرقت السمع لجملة كازينوية الحوار ظلت تترنم في أذني وتختمر بنفسي حتى دونتها بالورق لعلي أوفق بالكتابة عنها، إذ قال أحدهم: إنه رأى ما يبكي بعد أنْ تعشى مع أصدقائه في أحد مطاعم بغداد، فتبين لهم ان صاحب المطعم سوري والعمال بنكلاديش، لكنَّ الغريب بالأمر إنَّ المتسولين في باب المطعم كانوا من فقراء عراقيين، أما من يتعشى فهم من طبقة ظلت مترفة على ما يبدو منذ العهد العثماني والملكي والقاسمي والدكتاتوري والديمقراطي.. حتى يعلم
الله.
كنت عائداً لبيتي ويدور الوطن والفقراء برأسي المضطرب بتراكم ملفات لا تنتهي، سادراً حد الضجر واذا بصديقي يصيح بصوت رخيم: (تمر هند.. تمر هند.. اشرب جلاب يبعد الهم ويجلب الحظ)، انتابتني ضحكة وسعادة، انتفخت لها أساريري، فقلت له: (أهلاً صاحبي، فمنظرك أجمل ما في العراق وأنت تكافح على طريقة الجهاد الأكبر، اليوم أريد أكرمك وأوزع كل ما تبيع للمارة على حسابي، فهم أهلنا ونحن مثلهم فقراء نتقاسم الحلو والمر فضلاً عن المصير). فقال بالحرف الواحد - بعد أن فهم المعنى – بكل عزة نفس وإباء فضلاً عن كرم وجود يمثل عمق أهله وأجداده: (إنك تشرب على حسابي وكل من يأتون معك.. فمجرد سلامك وتحيتك كرم ومحبة أشعر معها وكأني مع أهلي، فإني أسر بلقائك كما تسر بي وربما
أكثر..).
وزعنا العصير وشربنا التمر هند حد الاستمراء والدعاء والأمل بأنْ يكون العراق للعراقيين جميعهم بلا حدود ولا تجزئة ولا فوارق طبقية أو مذهبية او قومية، فتلك أمراض سياسية نسأل الله أن يبرئنا منها الى الأبد!