{القرية الصغيرة}

آراء 2019/07/17
...

نصير فليح
 

من يتابع المشهد السياسي العربي في الاعوام الاخيرة يستطيع ملاحظة حالة من التراجع لما عرف بالاسلام السياسي. وذلك بعد الهزائم التي تلقتها التنظيمات الارهابية (وهي احد اشكال هذه الحركات السياسية التي يمكن تسميتها “اسلاموية” بمعنى ادعائها للاسلام)، لا سيما على جبهتي العراق وسوريا. وكذلك الحكم القصير للاخوان المسلمين في مصر. فضلاً عن السياسة الجديدة التي تبنتها حركة النهضة في تونس والتي باتت تتحاشى التواجد في الواجهة الاولى من المشهد السياسي. كما ان تهاوي حكم البشير في السودان (وكان شكلا آخر من السلطة السياسية الاسلاموية) بعد عقود من السطوة والهيمنة وتغييب الحياة المدنية، كل هذه وسواها علامات مهمة وواضحة في هذا التراجع.
لقد كان صعود بعض وجوه الاسلام السياسي الى السلطة بعد ما عرف “بالربيع العربي” حالة من ملء فراغ شغلته انظمة استبدادية مزمنة طويلة الامد. وما يجري اليوم حالة معاكسة، اذ ان فراغ تراجع حركات الاسلام السياسي يتم ملؤه بطرق مختلفة، تتوزع بشكل رئيس بين سلطات عسكرية جديدة، او قوى مدنية، وبين هذا وذاك درجات من التوازنات المختلفة. 
هذا لا يعني ان النسخ الاسلامية او الاسلاموية من الحركات السياسية اختفت وتلاشت نهائياً. فهي لا تزال تتمتع بشيء من القوة، لاسيما على مستوى الشارع. ولكن حتى في هذه الحالات باتت تشعر انها بحاجة الى مراجعة اجنداتها، ومشاريعها، وافكارها، التي تعودت عليها ووطنت نفسها فيها منذ عقود من الزمن، لتواكب مرحلة جديدة متسارعة التغيرات، وهذا تغير مهم واساسي.
ان جانب “العقائد” نفسه بات في علاقة جديدة مع جانب الواقع المعيشي والاقتصادي والاجتماعي. فقد كانت هناك حركات كثيرة رأت ان التغيير نحو الازدهار يبدأ من الجانب العقائدي. اي بتعبيرات حركات الاسلام السياسي، تطبيق “حاكمية الله” التي تعتقد انها تمثلها وانها صاحبة الحق الوحيد في تجسيدها والبت فيها. وان تطبيق هذه “الحاكمية” سوف يؤدي الى حل كل مشاكل الناس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. 
لكن الرياح جاءت بعيدة جداً عن سفن هذه الحركات، وتبين ان متغيرات العصر اكبر بكثير. وان تلك الافكار التي ظلت ترعاها وتحلم بها وتروج لها لعقود من الزمان، لم تعد ملائمة للعصر الحالي مع متابعة الناس لما يجري في ارجاء العالم المختلفة ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة ولحظة بلحظة احياناً. 
لقد تغذت تلك الحركات عبر عقود من الزمان على نوع من الغفلة الناجم عن الجهل العام. ولكن متغيرات العصر جعلت العالم كما يقال “قرية صغيرة”، وصار الناس يشعرون باحوال المجتمعات والشعوب الاخرى وما يجري فيها اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، حتى كأنهم جميعاً يعيشون في هذه “القرية” الصغيرة نفسها. وهذا عامل مهم جداً في تغيير طبيعة الذهنية والمزاج والوعي العام. وهذا ما يفسر ما نلاحظه في الآونة الاخيرة على وسائل الاعلام العربية من دعوات اكثر انفتاحاً واقل جموداً حتى من جانب تلك الحركات التي ظلت متشبثة طويلاً بافكار معينة، تصورت ان لديها الحق وحدها في التعبير عنها وتجسيدها.