عادل الصويري
من أهم عوامل نجاح المجتمعات هو اعتمادها على طاقات أبنائها الخلّاقين والمبدعين في شتى المجالات، واستثمار ذهنيتهم المتقدة وذكائهم بالشكل الأمثل، وأهم شيء أن يكون ذكاء الفرد منسجماً مع واقعه؛ حتى لا يقع في مأزق استحالة تطبيق ما أنتجه من أفكار، فيكون ذكاؤه في أحسن الأحوال وقتياً لم يكن بمستوى الانبهار الأولّي به.
الذكاء الحقيقي هو الذي يستشرف المستقبل، هو الذي يفهم طبيعة المشكلة، وتكون له الرؤية الواضحة والعميقة لها، فضلاً عن ستراتيجيات الحلول وليس الحل وهذا هو المفصل الأهم، فوضع ستراتيجية لحلول متعددة كفيل بمنح مساحة للتحرك لحل المشاكل.
وفي منطقة مثل منطقتنا، وخصوصية مجتمعية كالخصوصية الموجودة لدينا؛ ينبغي أن يكون الذكاء فاعلاً في الوقوف بوجه التحديات، وأن يكون إلى جانبه الحدس والنباهة والاصرار، وأن يعرف الذكي كيف يقرر، ومتى يقرر، وكل ذلك طبعاً بما ينسجم مع المصلحة المجتمعية التي ينبغي على الشخص الذكي استشراف مستقبلها بعد تأملات عميقة وجادة، واستنفار هائل للطاقات والامكانيات. ولو أردنا تشخيص أهم المشاكل التي ينبغي علينا معالجتها بذكاء مستقبلي لا مرحلي؛ هي المشكلة المتعلقة بانحسار الأخلاق، وتدني قيم الاعتدال في التعامل، الأمر الذي يحتم علينا ما أسميه (الذكاء الأخلاقي) أو (ذكاء الاعتدال)؛ لأن التراكمات الكثيرة تاريخياً وثقافياً واقتصادياً أثرت كثيراً بشكل سلبي في قيمتي الأخلاق والاعتدال.
ولعل من المفارقات العجيبة في وضعنا الحالي؛ ذلك الانزياح الأخلاقي متمثلاً بالاستيراد العشوائي لأخلاق آخرين يبتعدون عنا بأميال. فبعد أن تخلصنا ــ أقولها على حذر ــ من مخلفات الارهاب الدموي، ومظاهر العنف، وما خلفته من فجوات قيمية أزاحت الاعتدال؛ ظهرت بوادر الانزياح الأخلاقي المخيف من خلال استيراد المتداول من مظاهر الحياة في المجتمعات الغربية، وهذا الاستيراد مدعوم بجهد اعلامي وتواصلي في هوس غريب عنوانه (الانفتاح) لكنه انفتاح متطرف متشدد في هوسه بإحلال ما هو مستورد من الأخلاقيات بديلاً عن الأخلاقيات الأصلية والراسخة من خلال برمجة تزيح الأخلاق، وتوهم الفرد بقصد إيقاعه في شراك الماديات التي تجعل منه كائناً غريباً في منتهى الأنانية.
والذكاء الحقيقي الذي يلزم التعامل به مع هذه الحالة هو ذكاء الاعتدال والتعقل في محاورة الأفراد الذين وقعوا في شراك الانفتاح السلبي، فأي رد فعل سلبي سيجعل الذكاء في مهب الريح.
الذكاء يكمن في محاورة الشخص من خلال جعله يشعر بالمسؤولية تجاه مجمل القضايا التي تمس الواقع الانساني، وتشجيعه على إيجاد حلقة وصل بين المستجدات وبين القيم، والتركيز كذلك على تنشئة الأجيال على مفاهيم الوسطية.
إن الوصول لنقطة وسطية أصبح من الضرورات الملحة التي تجعل العالم الإنساني بمنأى عن أخطار التطرف الجهوي والفكري والفقهي، نقطةٌ تعمل على أفول كل ما يمت للتعصب وتقطع الطريق أمام إنشاء حضارة قائمة على أحادية الفكر والسلوك، نقطة تجعل العالم أكثر مرونة في التعاطي مع الآخر، وأقل عدائية تجاه المشاريع الفكرية والتنموية الناضجة، وذلك من خلال تهيئة متعددة الاتجاهات أهمها الثقافة بشقيها الفردي والجماعي، فضلاً عن عملية تقريب العلاقة بين المجتمعات على الأسس المشتركة مع احتفاظ كل مجتمع بهويته وتراثه وخصوصيته على صعيد المتبنيات الدينية أو الفكرية رغم صعوبة المهمة التي لا تعني استحالتها في حال آمنّا بذكائنا المستقبلي لا المرحلي.