نجت “نجلاء عماد لفتة” من عبوة ناسفة وضعت تحت سيارة والدها لكنها فقدت ثلاثة من أطرافها ولم تر فائدة من العيش، ومن ثم اكتشفت رياضة تتفوق فيها. لا تبدو هذه الفتاة العراقيَّة رياضيَّة تقليديَّة، إذ بترت ساقها اليمنى عند الفخذ واليسرى عند الركبة وذراعها الأيمن عند العضلة ذات الرأسين. وعندما تمارس نجلاء البالغة من العمر 14 سنة كرة الطاولة، يدور جذعها بسلاسة لمواجهة الكرة وتعيده بسرعة مما يصعب مهمة المنافس بالفوز عليها.
عادت نجلاء مؤخراً الى منزلها بعد إحرازها ميداليات فضيَّة وبرونزيَّة بمسابقة رياضية دولية استضافتها مصر.
تقول نجلاء وهي جالسة على كرسي متحرك ضيق بمنزل أهلها في ضواحي مدينة بعقوبة حيث تغيب الخدمات الأساسية: “أدركت في الصف الرابع اختلافي عن بقية الفتيات. رأيت صديقاتي يركضن داخل المدرسة ويتمشين ويلعبن، ويفكرن بمستقبلهن. وكل ما استطعت فعله الجلوس على كرسيّ المتحرك وفكرت برغبتي بالركض مثلهن”.
كانت نجلاء في الثالثة من عمرها عندما انفجرت عبوة لاصقة بسيارة والدها، إذ استهدفه تنظيم القاعدة الإرهابي بسبب عمله بقاعدة عسكريَّة محلية مع الجنود الأميركيين. وتحولت نجلاء خلال ثوان الى واحدة من آلاف العراقيين المصابين بسبب الإرهاب بعد 2003.
لم تبتر أطراف كل هؤلاء، ويعيش كثيرون بندوب أقل وضوحاً مثل إصابات الظهر التي تجعل من المستحيل المشي وحمل أي شيء، أو فقدان السمع أو فقدان إحدى العينين بسبب الشظايا المتطايرة. وكان بعض هؤلاء معيلي أسرهم مما جعلها بدون مأوى ويعيش كثيرون حياة صعبة. يصارع كل منهم بايجاد وسيلة للتكيف مع هذا الوضع، ونجلاء ضمن عدد متزايد من الرياضيين العراقيين المتنافسين بأعلى المستويات بعد فقدان أحد أطرافهم أو أكثر.
يقول نائب رئيس اللجنة البار المبية العراقية محمد عباس السلامي: إنَّ “عدد الرياضيين العراقيين المشاركين بالألعاب ممن تسبب الإرهاب بإصاباتهم ازداد بنسبة 70 بالمئة منذ 2003”.
وأضاف أنَّ الرياضيين ضحايا الحرب يتمتعون بموهبة واندفاع عاليين، لكنهم يعانون عاطفياً بسبب تذكرهم وقت ما قبل إصابتهم.
ذلك الصراع العاطفي جزءٌ من قصة نجلاء أيضا، فهي إحدى 8 أطفال ولدوا بعائلة متماسكة وكانت نجلاء طفلة نشيطة وتركض يومياً لمقابلة سيارة والدها عند عودته من عمله العسكري.
يستذكر والدها الحادثة بقوله: “كان يوم 19 نيسان 2008 وقدت سيارتي الى المنزل، وركضت نجلاء نحوي ومدت ذراعيها وهي تبتسم. خرجت من السيارة لمساعدتها على الجلوس داخلها، لكنها فتحت الباب فانفجرت العبوة اللاصقة. كنت حذراً للغاية ولم أركن سيارتي داخل القاعدة بسبب خوفي من مشاهدة السيارة واستهدافها، لكنَّ شخصاً ما رآني حتماً”.
أسرع والدها بها نحو المستشفى، لكنها خسرت الكثير من الدماء ما جعل الأطباء غير متأكدين من إنقاذها. وتسبب حزن نجلاء باتجاهها لممارسة كرة الطاولة، إذ اشترت مضرباً قبل خمس سنوات لتسلي نفسها بشيء بعد إكمال واجبها المدرسي.
أصيبت نجلاء بخيبة أمل، إذ بدأت حياتها وهي تستخدم اليد اليمنى لكنها فقدتها بسبب التفجير ومع عدم وجود أطراف اصطناعية عانت لتعلم استخدام يدها اليسرى، وضربت الكرة مراراً وتكراراً بحائط المنزل.
ذهب والدها الى مستشفى في بغداد وناشد الأطباء بمنح ابنته أطرافاً اصطناعيَّة، وقد فعلوا ذلك لكنها كانت رديئة النوعية وتؤذيها كثيراً الى درجة تجعلها عاجزة عن المشي بها. ومن ثم سمع والدها بوجود أطراف أفضل في محافظة أخرى، وبعد اقتصاده بالمصاريف لتوفير ثمنها، جلبها الى المنزل ووجدها غير مناسبة أيضاً. وفشلت محاولات لاحقة بالحصول على أطراف غير مؤذية.
يقول الوالد إنَّ أفضل نوعية هي الأطراف البريطانية لكنها تكلف 15 ألف دولار، وأطراف الرياضيين أغلى من ذلك. احتاجت نجلاء ثلاثة أطراف لكن راتب والدها التقاعدي البالغ 500 ألف دينار شهرياً يجعل مجرد الحصول على طرف واحد أمراً صعب المنال. بعد حزنه بسبب عجزه عن مساعدة ابنته، طلب عماد لفتة من صديق له عمل مدرباً لكرة الطاولة أنْ يعطي نجلاء بعض الدروس باللعبة. وتستذكر نجلاء اليوم الذي جاء فيه حسام حسين الى منزل أهلها وقال لها: “أريدك أنْ تأخذي هذا المضرب وتبدئي بالتدريب يومياً”. نفذت نجلاء طلبه وبدأت العمل من ساعة الى ساعتين يومياً لتقوية ضرباتها.
يقول حسام إنه بعد مشاهدتها ورؤية تحسنها خلال وقت قصير، كان تقييمه أنها تمتلك إمكانية جيدة جداً بسبب دافعها. وكان يجلبها الى منزله مرة أسبوعياً للتدريب ويعلمها الى أنْ أصبحت مستعدة للتنافس ضد لاعبين معاقين من محافظات أخرى.
كانت نجلاء في 12 من عمرها عندما كسبت مكاناً بالفريق الوطني، وتقول إنَّ سر نجاحها لم يكن النظر نحو اللاعبين الآخرين فكرة الطاولة لعبة يستخدم متسابقوها حيلاً نفسيَّة لهزيمة منافسيهم.
يقول عقيل حميد رئيس اللجنة البارالمبية: “ما أثار إعجابي في نجلاء هي أنها تنتمي لعائلة فقيرة جداً وتعيش في حي للعشوائيات ولديها يدٌ واحدة وهي بطلة العراق وفازت بالميدالية الذهبية في بطولة العراق والميدالية الفضية آسيوياً. هذه معجزة فعلاً ويجب أنْ يكون إصرار وجهد وأمل نجلاء درساً كبيراً لنا ولكل العراقيين”.
تتمرن نجلاء بين ساعتين الى ثلاث ساعات يومياً في منزلها، واشترت عائلتها منضدة تحتل غرفة كاملة تقريباً مما يترك مجالاً يكفي بالكاد للعب مع شقيقاتها. تعد شقيقتها الكبرى زينب أكثرهن قرباً لها، وتقول: “أنا معها بكل شيء ونذهب للمدرسة سوية ونقرأ معاً ونخرج معاً ونذهب للسوق معاً لشراء الملابس”.
تسافر نجلاء مرة أسبوعياً الى بغداد للتدرب في مركز المنتخب البارالمبي مع جمال جلال وهو عضو سابق بالفريق الوطني لكرة الطاولة ومدرب الفريق.
تقول نجلاء إنَّ الجو داخل المركز يرفع روحها المعنويَّة لأنها تتمرن مع رياضيين معاقين آخرين من جميع الأعمار. واشترت اللجنة البارالمبية مؤخراً أطرافاً اصطناعية لنجلاء وهي أفضل بكثير من الأطراف السابقة لكنها لا تزال غير مناسبة للرياضيين، وتذكر نجلاء: “لأكون صادقة لا شيء يقارن بالأطراف الطبيعية، لكن على الأقل أنا سعيدة بما أنجزته”.
صحيفة نيويورك تايمز