- 1 -
الإنسان بنيان الله في الأرض.
ولقد كرّمه أعظم تكريم، وخَلَقَهُ في أحسن تقويم، وسخّر له ما في الأرض وما في السماء، وهو المحور الأساس الذي ينهضُ بمهمات الخلافة لله في الأرض، وإعمارها وفق المنهج المرسوم.
- 2 -
ومن هنا كان قَتْلُ إنسانٍ بريء واحدٍ بمثابة قتل الإنسانيَّة جمعاء.
(من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً)
المائدة/ 32
وكان إحياء نَفْسٍ واحدة بمثابة إحياء الناس جميعاً
(ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً)
المائدة /32
- 3 -
ولما كان الإنسان هو الكائن المفضّل على سائر المخلوقات الأخرى اتسمت عمليات التعاطي معه بسمات خاصة أبرزُها الحفاظ على كرامته وماء وجهه من أنْ يُراق، وتجنيبُه الشعور بالمذّلة في كل المواقف.
- 4 -
والأئمة الهداة الميامين من أهل البيت (عليهم السلام) هم أعظمُ من جسّد المُثُل والقيم الرفيعة تجسيداً رائعاً، جعلهم الروّاد في مضمار الفضائل الأخلاقية والمناقب والآداب السامية، وتاريخهم حافلٌ بالصور والمواقف التي تُحتذى وتقتدى.
- 5 -
ومن تلك المواقف الأصيلة: قصة الرجل الذي سافر الى الديار المقدسة لأداء الحج ونفدت نفقته، وأوقعه ذلك في حالة من الحرج والشدّة.
فقصد الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)
- وهو الإمام الثامن من أئمة أهل البيت (ع) – وقال:
(أنا رجل من محبيك ومحبي آبائِكَ وأجدادِكَ،
ومَصْدري من الحج، وقد نفدت نفقتي (أي صَرَفَ كلَّ ما كان معه من المال)
وما معي ما أبلغ مرحلة، فإنْ رأيتَ أنْ تُرجعني الى بلدي، فاذا بلغتُ تصدّقت بالذي تعطيني عنك)
ويبدو أنَّ الرجل أقبل على الإمام الرضا (ع) وأبلغه ما أراد وفي مجلس الإمام (ع) أناس كثيرون فقال له الإمام:
“اجلس رحمك الله)
وأقبل على الناس يُحدّثهم حتى تفرقوا،
وبقي هو وسليمان الجعفري وخيثمة، فاستأذن الإمام منهم ودخل الدار، ثم خرج وردّ الباب، وأخرج من أعلى الباب صرّةً، وسألَ عن الرجل فقام اليه فقال له (ع) “خذ هذه المائتيْ دينار، واستعن بها في مؤنتك ونفقتك وتبرك بها ولا تصدق بها عني، واخرج فلا أراك ولا تراني وستر وجهه عنه
فانصرف الرجل مسروراً
وهنا سأله سليمان الجعفري:
فقال له:
جعلتُ فداك
لقد أجزلتَ ورحمتَ فلماذا سترتَ وجهك عنه؟
فأجابه الإمام (ع) قائلاً:
“إنما صنعتُ ذلك مَخافة أنْ أرى ذُلَّ السؤال في وجهه لقضائي حاجته”
وهنا نلاحظ:
1 - إنَّ الإمام (ع) لم يُرد أنْ يُقدم له المال بمرأى من الناس حرصاً على كرامته .
وهذا هو التكريم الحقيقي .
2 - لقد أجزل الإمام (ع) له العطاء، وهذه هي سجية أهل البيت (ع) ودَفَعَ عنه الغوائل وأدخل السرور على قلبه، وهكذا يجب أنْ يكون التعامل الإنساني.
3 - كان الإمام (ع) حريصاً على قضاء حاجة الرجل، وهو بهذا يرسمُ لنا معالم النهج الأمثل للتعامل مع ذوي الحاجات.
إننا مع الأسف الشديد نشهد زهد الكثيرين في أعمال الخير كلها، وليس قضاء الحاجات فقط – وهو مؤشر سلبي خطير.
وفي المقابل تراهم يقبلون على اصطناع المفارقات ويخترقون الضوابط والموازين ..!!
4 - إنَّ قراءة التاريخ وسير النبيّ وآله عليهم الصلاة والسلام، تزخرُ بالفوائد والعوائد والتي نحن بأمس الحاجة إليها فلا ينبغي أنْ
تُنسى.
5 - أرأيتَ كيف استأذن الإمام الرضا من سليمان وخيثمة حين أراد مفارقتهما والدخول الى
الدار؟
إنه الخلق الرفيع والأدب العالي وإلاّ فإنَّ عليهما أنْ يستأذنا الإمام إنْ أرادا الانصراف ولا يلزمه ذلك، ولكنه انطلاقاً من أخلاقيته الفريدة استأذنهما في منحى واضح الدلالة على أهمية التعاطي الرصين والخلق العالي بين المؤمنين.