د: عالية خليل إبراهيم
عديدة هي الأعمال الأدبية التي تضمن نصوصها أبعادا معرفية تنظيرية واجرائية للمحاجة عن جنس أدبي،فالبحث في أصول الخطابات المختلفة والتفقه في الأجناس الأدبية ووظائفها الإبداعية وشرعية بقائها يعد سمة واضحة من سمات الكتابة الابداعية المعاصرة.
تنضوي المجموعة القصصية"روشيرو" للقاص (حسين رشيد) ضمن هذا التوصيف لما فيها من دفاع عن موجة القصص القصيرة جدا يأخذ سمة الحجاج ليبين المؤلف إن هذا النوع من القص توجه في الكتابة يمتلك رجاحة التفوق على الأنواع القصصية المهيمنة مثل القصة الطويلة والقصيرة والرواية، فقد قدم لمجموعتهبمقولة نصها " الكاتب لا يرغب في كتابة نصوص مختصرة موجزة، بل يفضل كتابة نصوص طويلة لا نهاية لها، إذ لا يحتاج الى تشغيل مخيلته" المقولة للروائي الغواتيمالي " أوغستو مونتيروسو" وفيها محاجة أولى بالضد منالنصوص الطويلة كونها تستنزف طاقة المخيلة حيث لا يكون أمامها إلا الإعادة
والتكرار .
قسم الكاتب مجموعته إلى مجموعات قصصية فرعية أو أقسام لكل منها عنوانه الخاص ،في كل قسم هنالك رؤية محددة في الكتابة القصيرة مختلفة عن القسم الاخر مع المحافظة على سمة الاختصار والتكثيف، بدأها بقصة "روشيرو" وفيها اشتغال على سيميائية الدال وما يختزنه من حمولة رمزية منفتحة في الدلالة وغير محددة بسياق مرجعي ثابت ،فقد تدل هذه الكلمة التي ليس لها معنى في المعجم العربي على مكان أو حدث أو شخصية بحسب كل قارئ ودرجة وعيه وتمثله لدلالة النص" روشيرو منحوتة وجدت في كل الحضارات وتناولتها كل الكتب والأديان والسماوات، روشيرو حكاية من غير بداية ولا نهاية"/9..إن الكتابة القصيرة جدا من هذا المدخل السيميائي بإمكانها التعامل مع النص القصصي بوصفه فسيفساءً لغويا ونسيجا تركيبيا رمزيا وموسيقى صوتية بشكل يقترب من قصيدة النثر السريالية أو مسرح العبث، هذا النوع من الكتابة غير ممكن في القصة الطويلة أو الرواية لأنهما مطالبتان بقص حكاية محددة مستندة إلى مرجع
وسياق.
القسم الأول من المجموعة عنوانه " تعال لأريك"يبدو فيه إن الاختلاف بين القصة القصيرة وبين القصة القصيرة جدا هو اختلاف في الحجم وليس في النوع والوظيفة، فقصة "شقتان" على سبيل المثال قصة قصيرة مكتملة الأركان فهنالك الشخصية الرئيسة التي لها سمات نفسية واجتماعية محددة، ولها معاناتها الممتدة في الزمن وحكايتها الخاصة المتمثلة بمحاولة الانتحار في شقة مقابلة لشقة أخرى تسكنها امرأة حسناء، يتمثل الفرق بين هذه النص وغيره من القصص القصيرة في تكثيف الزمن واختصار احداثه المتعاقبة الى جمل سردية محددة.
من بين قصص هذا القسم قصة استثنائية بأحداثها بليغة في أسلوبها مكثفة في دلالتها اضاءت قصة" مخلوق " ذات المنحى العجائبي على مضامين القصص بأجمعها فقد تضمنت رؤية تهكمية من حقيقة الوجود ومعنى الحياة من خلال تمثلها لطقوس العبور بداية من اسطورة الخلق الأمومي المفترضة مرورا بالشهوة والتناسل ثم الحمل والولادة " عادت الجنية واستلبت روحي من بين أفخاذهن ورمتها في السماء فكانت نسرا وفي الأرض علت شجرة صنوبر"/18.
ينتج التاريخ الشائه عنفا ومجازر والنساء الشريرات يلدن مخلوقات هجينة مشوهة تلك هي المضامين التي حملتها هذه القصة وأغلب
القصص الأخرى.
في قسم آخر من القصص عنوانه" تمعن بذلك"، يتماهى القصص القصير جدا مع المدونات والحكاية الشعبيتين سواء التقليدية منها مثل حكايات الناس ونكتهم التي يتداولونها في المقاهي والأسواق والدوائر أو الحداثية منها متمثلة في شبكات التواصل الاجتماعي وما يطرح فيها من قصص وقضايا وهواجس، فالقصص القصيرة جدا من وجهة النظر هذه يمثل روح إنسان العصر وثقافته الشفاهية وتفكيره التصوري وليس الجدلي،فقد فرض العامة في العصر الراهن نسقهم الثقافي والأدبي على النخب ولذلك لم تعد نظرية السرد رهينة وظيفية دلالية وجمالية محددة منظر لها مسبقا بل هي حضور يتجدد في التداول الشعبي للغة وآدابها.
في قصص " تحدثُ معك، ثلاثيات" و" تخيل ذلك" طرح المؤلف اسلوبية المتوالية القصصية حيث ترتبط سلسلة من القصص القصيرة الجزئية بقصة الاطار الأشمل .
يتبقى سؤال أشكالي بعد مطالعة مجموعة "روشيرو" وحجاجها الإبداعي عن القصة القصيرة جدا، هل يعد هذا التنوع في القصص شكلا ودلالة تثبيتا لهوية النوع الأدبي أم
تغييبا لها؟.