تتسم تجربة محمود عجمي التشكيلية بمميزات تدل عليه من دون عناء . فقد تمحورت هذه التجربة منذ بداياته على (ايقونة) طاغية هي الجسد وثنائية الانوثة والذكورة والافصاح عن تمظهرات القوة والضعف عبر هذه الثنائية ذات المسحة (الايروسية) , ويعطي محمود عجمي الاهتمام بتفاصيل الجسد وفصلها عن بعضها لضخ دلالاتها الخاصة واستقلالية دورها ويحررها احيانا ليعيد تشكيله الوصول الى فرصة ابتكار اشكال متحررة من سياقها التقليدي.. الرأس وعلامته الفارقة ،القرنان المعقوفان والاطراف والصدر وباقي اجزاء الجسد والتركيز على الاثارة الجسدية من خلال التفكيك والدمج والتقطيع.
ويعد معرض (ترنيمة الحصى) الذي اقيم في نهاية نيسان 2019على قاعة ــ الود للثقافة والفنون في بابل ــ من وجهة نظري نقلة نوعية اخرى في سلسلة معارض محمود عجمي السابقة وهو يسعى الى اغناء تجربته بانفتاحها على الواقع بتفاصيله الكثيرة والهروب من الاجترار الشكلي وكسر دائرة اشتغاله المشار اليها سلفا , فما الجديد في ترنيمة الحجر؟ وهل استطاع الفنان تجاوز نفسه في اجتراح اساليب وفضاءات تجريبية ليضعنا امام تجربة تخطو بثقة نحو اعمال تحمل اهميتها الفنية وخطابها الجمالي.؟ يقول محمود عجمي في تصدير المعرض : " ترنيمة الحصى عنوان اختلاجات سكنت نفسي الحالمة بالسكون وبعيدا عن صخب حياة لا تريد الاستقرار عند حد, يرسم لها طريق الخلاص صوب شاطئ أمان يعيد لها توازنها وبحثها عن المجهول الذي يربطها بعوالم تنبئ عن قدر يشي بالانعتاق من زمن توقف عند (الصفر) .
ان النقلة التي حققها عجمي في ترنيمة الحجر كمحطة من محطات مشروعه الفني تتلخص في عبوره من محاورة الجسد الحي / بشري/ حيواني الى محاورة الوجود الجامد وفتح افق التأمل في كل شيء يقع تحت نظره.. والبحث عن الاثارة المختبئة في ما هو غير مثير وفي المنسي والمهمل في النظرة السائدة .
يفتح المعرض فضاء مطلقا للوجود المادي والظاهرة الطبيعية بنوعيها الحية والجامدة .وفي منحوتاته اولى الطبيعة الساكنة اهتمامه الاول من اجل اخراجها من اللاجدوى الى الجدوى بوعيه وكشوفاته , لما تخفيه من جماليات مضمرة .. لذا نجده يلفت الانتباه الى ما هو خارج دائرة الاهتمام بالنظرة العامة في زوايا الحياة وتفاصيلها الكثيرة . انه يمنح هذه الاشياء حضورا جماليا ناشئا عن المفارقة والالتقاط الذكي للإيحاءات المتخيلة باستنطاق الاشياء الصامتة عن طريق أنسنتها او منحها فرصة التحول الى مكونات جمالية .
انه يعمل على أنسنة الاشياء بمخيلة شعرية وهو بذلك يؤنسن اللا إنساني وضخ حرارة الوجود فيه فكل قطعة نحت او لوحة تحمل من الشعر ما يكفي لجلب الانتباه والتأمل في ما لهذا الوجود من الدهشة المختبئة خلف المظاهر
الساكنة .
ان ملاحقة المهمل والمقصي ووضعه في دائرة الاهتمام وبث الحركة والحياة فيه هو تأسيس لموقف يحترم الحياة من حيث ان لكل وجود جدوى وفي كل وجود جوهر مضمر يسعى الفنان لتحريره من اجل تحقيق التوازن في الحياة. ان محمود عجمي بأدواته ووعيه ومهارته التشكيلية يحقق فعلا فنيا خاصا قادرا على تحريك واستفزاز مخيلة المتلقي. ومن أجل ذلك تتعد الوسائل لديه من اجل الوصول الى الغاية الجمالية التي هي محور الفن بألوانه كافة ..فمن محاورة الجسد بتماهي الذكورة والانوثة الى توظيف الموروث وتأويل الساكن الى ملاحقة المهمل واستنطاق الصامت .. كل ذلك بلعبة تشكيلية ماهرة قادرة على منح الاثارة والمتعة البصرية
والذهنية.