ساطع راجي
يخطئ كل من يأمل ان تحل اي موازنة مالية سنوية المشاكل الاقتصادية للعراق، فالموازنة السنوية تعد بطريقة توزيع الريع، همها الاول تأمين الرواتب اولا واستحقاقات الموظفين الاخرى، ثم توفير الحد الادنى من أسباب الابقاء على الهياكل المؤسساتية غير المنتجة طبعا بالاضافة الى الحد المتدني المتوارث من خدمات صحية وامنية وبلدية وتعليمية، والموازنة بالمجمل ليست طريقا حقيقيا للإعمار او تنشيط القطاع الخاص ولا هي حتى قادرة حاليا على توفير المزيد من الوظائف.
العقل المهيمن على اعداد الموازنات يمكن القول انه “ميؤوس منه” عقل محكوم بجداول متوارثة وربما هو اصلا لايملك صلاحيات التخطيط ووضع الاولويات، ولأنه عقل موظف روتيني فهو يعتقد ان ضمان حقوق الموظف هي مهمته الاولى وربما الوحيدة ومع مرور الوقت صار لايرى غير الرواتب في خزينة الدولة ولذلك فإن طريقة توفير الاموال او تعويض العجز يكون ايضا عن طريق رواتب الموظفين بالاستقطاعات والضرائب والاغراء بالإجازات
الطويلة.
العقل المالي العراقي اختزل الاقتصاد الى بيع النفط وتوزيع العائدات كرواتب، اي حدث او ظرف استثنائي يعني خفض الرواتب لمواجهته، هذا العقل المالي ينسى ثروته الهائلة التي يمتلكها، وهي الثروة او الثروات التي تمتلكها اي دولة والتي صارت تشمل كل شيء، كل شيء في حدود الدولة، من هواء الهواتف والانترنيت الى المياه والشمس والاراضي المشاعة والمملوكة للدولة اصلا
، العقل المالي عندنا لايريد التفكير حتى في استثمار اراضي ومباني المؤسسات المنحلة او المحروقة او المهملة منذ 16 عاما وهو يتركها منذ عقد ونصف للتآكل او الاستغلال غير القانوني حتى لو كانت في قلب العاصمة الذي يزدحم يوما بعد آخر ويقترب من الانفجار بسبب التهام الفضاءات والمساحات
الخضراء.
العقل المالي الذي يدير الموازنة لا يمكن الاعتماد عليه في تحقيق طفرات استثنائية اقتصاديا او خدميا، وهو رغم كل الوعود لن ينجح حتى في توفير حد ادنى من الوظائف في اي قطاع لأنه من الواضح عدم حدوث اي تغيير جوهري في هذا العقل على مستوى الافراد والمنهج والاولويات
، وللأسف لا يمكن ايضا التعويل على القوى السياسية او البرلمانية في انتاج رؤية اقتصادية فهذه القوى تريد استغلال المال لكسب مزيد من الشعبية وهي عملت اقرت فعلا قوانين تهدر المال العام بذريعة دعم المواطن او دعم شرائح معينة لكن النتيجة الواضحة هي ان لا المواطن ولا الوطن انتفعا من تلك الاموال
المهدورة.
الجدل الراهن حول الموازنة والتحذيرات والتهديدات، كلها استنساخ لما حدث في السنوات الماضية وهو ما يعني اننا امام استنساخ للموازنة ربما مع تعديلات محدودة ليست ذات اثر تهدف فقط للدفاع عن فكرة وجود اختلاف عبر الاعلام وليس لإنجاز اختلاف حقيقي مهما كان
ضئيلا.
تغيير العقل المالي للدولة صار صعبا، بعدما تحول هذا العقل الى عدد محدود من الافراد الذين انتجوا خلفاءهم مسبقا وفقا لعمل الدوائر الحكومية الروتيني، بل ان موظفين تقليديين لن يكون ابدا بإمكانهم انقاذ الاقتصاد العراقي
، الوضع يحتاج الى نظرة شمولية من خارج الحلقة الضيقة، نظرة تلاحق حتى “السكراب” و”النفايات” والاراضي الميرية المهملة او ذات العقود الوهمية، نظرة تحسب قيمة الهواء وتلاحظ كل درب جديد للضرائب وتلاحق ايرادات الدولة الحقيقية للخروج من ازمة مجتمع يحتاج سنويا لمئات آلاف من فرص العمل ولبنية تحتية قديمة ومدن مهدمة بفعل الارهاب والاعمال العسكرية وقرى تعيش ببيوت طينية واراض تزرع بطرق
بدائية.
لا يمكن ان نتوقع من عقل روتيني ان يحل مشاكل حادة وخانقة ولا يمكن ان تنفعنا المزايدات الاعلامية للنواب في انقاذنا من الازمة.