اللغة ومقتضى الحال

ثقافة 2019/08/20
...

د. حسين القاصد
 لو بحثنا في الشعر الجاهلي ، وسألنا بجدية فاحصة لا بغاية تنظيرية عديمة المغزى، لوصلنا إلى بعض الأجوبة المقنعة ، فلقد ذهب أغلب الدارسين للشعر الجاهلي بعيدا جدا في تسويغ الخطاب الموجه إلى المثنى في الشعر الجاهلي ، ولعل حقيقة الأمر أن اللغة التي يتكلمها العرب شارحة لبيئتهم ، فهي لغة صحراء ، ولغة لاتخلو من الحذر ، وكان الرجل حين يسافر يصحبة اثنين أو أكثر، لأن الاكتفاء برفيق درب واحد قد يؤدي إلى غدر أحدهم بالثاني ولاشاهد عليه ، ولعلنا نلمس هذا الخطاب في زمن متأخر لكن لدى شاعر أدمن الصحراء قبل أن يموت ، وهو مالك بن الريب ( خذاني فجراني ... ) وهو خطاب للمثنى كأنه يدلل على براءة من معه ، وتمسكه بالنسق الثلاثي ، فالشاعر على الرغم من تحوله من معسكر الصعاليك ومنطقة الصحراء الى معسكر المدينة ومنطقة السلطة ، نجده مازال نسقيا قضويا تداوليا ، فهو ما ان هدده خطر الموت مال الى مخاطبة شخصين اثنين ؛ فإذا كانت العلاقة بين الكلمة والغرض الذي تمثله أو المعبر عنه علاقة افتراضية وتقوم على العرف كما يقول سوسير ، فإن بيئة صنع أهلها لغتهم من أقرب الأشياء التي تحيط بهم ، وهي لغة متحسسة لكل مايعيشونه ، فهم اشتقوا الجمال من الجمل وهم اشتقوا الأناقة من الناقة ، وفصّلوا القصيدة على هندسة بيتهم الذي يسكنونه ، وهم بذلك ينطقون مايستشعرون ، لذلك صارت حتى تحيتهم تداولية براغماتية ذات نسق مضمر مرعب ، فإذا كان صاحب القصيدة  يخاف السفر مع الواحد ويصطحب اثنين ويعلن اصطحابهم ببيان شعري ، فإن تحيتهم لاتخلو من خوف مضمر فصار المرء يستبق الخوف بالأمان ويقول ( السلام عليكم ) وحين يغادر ( استودعكم الله )  ، وكل هذا موافقة مقتضى حالٍ يقول أن  المرء غير مطمئن وغير آمن ، ولعله تداوليا صار حتى السلام الجمهوري أو السلام الملكي مصحوبا بالسلاح إن كان سيفا أو سلاحا حديثا ، و لقد حاول كلود ليفي شتراوس ( أن ينظر إلى مكونات السلوك الثقافي ... ليس كهويات غريزية أو مستقلة ، بل وفقا لمعايير العلاقات المتباينة التي لديهم والتي تجعل تركيباتها تتماثل مع التركيبة الفونيمية للغة ) ، ولعل شتراوس أراد باللغة هنا اللسان ، لأنه هو الذي يشكل الملمح الجمعي وهو (( أعم من اللغة ومن شكل تحيينها الواقعي ( الكلام ) وسابق عليها معا ، فهو ملكة تختلف في كونها فطرية أو غير فطرية لأنه قدرة مجردة توجد في دماغ  الكائن البشري ... أي هو ملكة من القواعد المختلفة )) ، ولسان الصحراء كما هو واضح، إنهم ينطقون بالقرب منهم ولايذهبون أبعد من حياتهم.