ياسين النصير ناقداً رائداً

ثقافة 2019/08/23
...

د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
تعود مسيرة نقد السرد في العراق إلى منتصف عشرينيات القرن الماضي الذي شهد كتابات انطوت لأول مرة على بعض الوعي النقدي والأسلوب النقدي والمعالجات البسيطة ولكن النقدية، وكما تمثّلت في كتابات محمود أحمد السيد وقلائل آخرين ظهرت بين ذلك التاريخ ومنتصف الثلاثينيات، وتواصل بعد ذلك بدون تطور ملحوظ، قبل أن تظهر في الفترة الممتدة من نهاية الأربعينيات ونهاية الخمسينيات، كتابات هكذا تطور ونضج وبعض تنظير في الكتابة عن فن القصة، عكس فهماً ملحوظاً لعدد من أصحابها ومنهم عبد الملك نوري والأخوان نهاد التكرلي وفؤاد التكرلي. وشكّلت ما سميناها في كتابات سابقة مرحلة التمهيد للتأسيس، الذي تلا ذلك فعلاً وتحقق في تأليف وكتابات عديدة. فإضافة إلى “القصص في الأدب العراقي الحديث” 1956 لرائد نقد السرد الأكاديمي في العراق عبد القادر حسن أمين، الذي نراه، بسبب انقطاع صاحبه عن الكتابة بعده، ينتمي إلى المرحلة السابقة أكثر منه للتأسيس، يمكن أن نقول إن أهم أعمال هذا التأسيس هي: “نقد القصة العراقية” 1961 لباسم عبد الحميد حمودي، و”في القصص العراقي المعاصر” 1967 و”محمود أحمد السيد رائد القصة الحديثة في العراق” 1969 وكلاهما للدكتور علي جواد الطاهر، و”نشأة القصة وتطورها في العراق 1908-1939” 1969 لعبد الإله أحمد. وقد نضيف: كتاب “مرايا على الطريق”- 1970- لعبد الجبار عباس، وكتابي “الرواية العربية في العراق” 1971 و”الاتجاه الواقعي في الرواية العراقية” 1971 لعمر الطالب، وكتاب “قصص عراقية معاصرة، مختارات وتقديم”- 1971- لفاضل ثامر وياسين النصير.
وتبعاً لذلك يمكن لنا أن نقول إن مؤسسي نقد السرد في العراق، المتحقق في المدة من بداية الستينيات إلى بداية السعينيات، مع إسهام بعض من سبقهم وتعزيز بعض من تلاهم، هم بشكل رئيس: عبد القادر حسن أمين، والدكتور علي جواد الطاهر، وباسم عبد الحميد حمودي، وعبد الإله أحمد، وإلى حد ما الدكتور عمر الطالب، وشجاع مسلم العاني، وفاضل ثامر، وياسين النصير، وعبد الجبار عباس. 
    كانت بدايتي في الكتابة النقدية، عام 1972، وكان ذلك في ظل هيمنة مجموعة من النقاد على الحياة النقدية العراقية، وفي النتيجة على ثقافتي واشتغالي النقدي المتواضع والأولي: علي جواد الطاهر، وعبد الإله أحمد، وفاضل ثامر، وياسين النصير، وشجاع العاني، وباسم عبد الحميد حمودي، وعبد الجبار عباس. وهي تلمذة تواصلتْ، على الأقل إلى ما بعد حصولي على شهادة الدكتوراه في الدراسات المقارنة ولاسيما للرواية العربية منتصف الثمانينيات. وهكذا كان لكل هؤلاء، ولآخرين بدرجة أقل، الفضل في التأسيس لمسيرتي النقدية والأكاديمية، لكن المهم أنّ هذا لا بعد أن يعني أن لهم، وأنا أتكلم عن نفسي بوصفي واحداً من العديد من أمثالي، الفضل على الإبداع العراقي شعراً وسرداً، وعلى نقد هذا الإبداع، وعلى المنخرطين في هذين الميدانين من مبدعين ونقاد، وأكاديميين وطلبة. من هذا المنطلق تأتي أهمية وقفتنا عن الناقد ياسين النصير، ضمن وقفاتنا عند رواد نقد السرد في العراق.
( 2 )
ولد الناقد ياسين النصير في محافظة البصرة في أربعينيات القرن الماضي، وانتقل إلى بغداد عام 1970، التي ظل فيها حتى هجرته من العراق ليستقر في هولندا عام 1995، وهو حالياً يتنقل ما بين العراق وهولندا. وبوصوله بغداد بدأ مسيرته النقدية التي مازالت متواصلة إلى الآن، وإذا كان زخمها قد تراجع نسبياً في سنوات سابقة، وكان ذلك بظننا نتيجة اضطراب الفترة قبل احتلال العراق وبعده، فإنه قد عاد في السنوات القليلة الماضية ليشكل أحد الناشطين في التأليف والكتابة النقدية، ليعيدنا إلى مسيرته تلك. لقد بدأ النصير ناقدا للقصة والشعر، وضمن ذلك بشكل خاص القصة العراقية، متبنياً ما نراه منهجاً اجتماعياً، مع رؤية ماركسية ملتزمة، كما عبّر عن ذلك بشكل مبكر، وتحديداً من خلال كتابين. الكتاب الاول الذي صدر عام 1971 مشتركاً بينه وبين رفيق دربه الناقد فاضل ثامر، هو “قصص عراقية معاصرة”، وقد ضمّ، وفي هدْيِ هذه الرؤية الملتزمة، دراسةً ومجموعة مختارة من القصص العراقية الستينية، وهي اختيارات دعمت رؤاه ورؤى زميله الفنية والفكرية التي عبرت الدراسة وكما ستعبر عنها كتاباتهما الأخرى. وعزّز تبنّيه لهذا المنهج وهذه الرؤى عام 1975 في كتابه الثاني “القاص والواقع”، وكما فعل فاضل ثامر في السنة نفسها في كتابه “معالم جديدة في أدبنا المعاصر”، هما الكتابان اللذان نراهما يبقيان علاميتن في مسيرة نقد السرد في العراق، وخصوصاً في مرحلة التأسيس، أو ربما تعزيز التأسيس، التي تواصلت بهما وبكتب قليلة أخرى. بعد كتابي النصير وثامر وما رافقهما من نشاط نقدي، ومع بقاء التقارب في التجربة والكتابة وعموم المسيرة ما بينهما، بدا أن كلاًّ من الناقدين سيختط لنفسه تجربته النقدية الخاصة التي ستُمثّلها بشكل خاص مؤلفات كل منهما، مقرونة بالرؤية والتعامل مع النصوص والانتقاء والاشتغال النقدي الخاص، وربما الأكثر في نوعية اهتمامات كل منهما النقدية والفكرية والثقافية. 
وهكذا، كما توالت مؤلفات فاضل ثامر النقدية لتعزز تميز شخصية نقدية، توالت مؤلفات ياسين النصير لتعزز شخصية نقدية أخرى، ومن أهم هذه مؤلفاته في نقد السرد تحديداً، إلى جانب (القاص والواقع)، نذكر: 
• الرواية والمكان، ج1 عام 1980، وج2 عام 1986.
• دلالة المكان في قصص الأطفال، 1985. 
• إشكالية المكان في النص الأدبي، دراسات في الشعر والرواية، 1988. 
• الاستهلال، فن البدايات في النص الأدبي، 1993. 
( 3 )
من خلال مسيرة ياسين النصير التأليفية وضمنها تجربته النقدية، وكما تُمثّلها مؤلفاته وكتاباته الأخرى المتنوّعة الاهتمامات، يمكن أن نسجل الملاحظات الآتية:
• توزّع اهتمام الناقد، طوال مسيرته النقدية والتأليفية غالباً، على حقول ثقافية واسعة، من السرد والشعر والفولكلور وأدب الأطفال والتشكيل والتوثيق، وتركز في بعض مراحل تلك المسيرة، على حقول أو فروع من تلك الحقول أكثر منه على الأخرى. وضمن ذلك العام والخاص، يبرز الاهتمام بالانساق الثقافية، مما قد يصب في ما يُسمى بالدراسات الثقافية أو النقد الثقافي.
• تبنّى الناقد، على الأقل في بعض مراحل مسيرته، وكما تُجسّد ذلك بعض مؤلفاته، رؤية اجتماعية ملتزمة قد تكون ماركسية منفتحة أو مرنة أحياناً، وقد تبدو على شيء من الصرامة أحياناً أخرى. كما تبنّى، في بعض تلك المراحل وبعض تلك المؤلفات، وبعيداً عن تأطيرات الفكر السياسي، طروحات باشلار وتحديداً في كتابه (جماليات المكان). وقد ظل المكان في الأدب، ولاسيما في السرد، بما في ذلك سرد الأطفال، شغل النصير الشاغل، بل لا نبالغ إذا ما قلنا أن اسم ياسين النصير ارتبط بالمكان، كما أن المكان في الأدب، ولاسيما الرواية، ارتبط باسمه.
• بقي متعلّقاً بالنقطة الأخيرة، أقول كنت وإلى حد ما لا أزال آخذ على الناقد ياسين النصير أنه كثيراً ما ينفرد في معالجة موضوعات وحقول قد يكون بعضها بِكراً، في عالم الإبداع والنقد والثقافة، فيؤسس وينظّر ويبحث فيها ولها، ليتركها فجأة لغيره في وقت يكون متاحاً له أن يكون متفرداً وهو يحقق درجة في الريادة فيها، وكأنه في ذلك يهيئ ذلك ويهديه للاخرين. وهو ما فعله مع نقد القصة العراقية والشعر العراقي، وأدب الأطفال، والميثولوجيا وألف ليلة وليلة، وكما فعله، بظني، مع المكان حين تركه، بعد أن وصل فيه إلى مرحلة ارتباط المكان به، كما أشرنا. 
• وإذا كان في هذا ما قد ينطوي على اعتراض مني على ممارسته الثقافية والنقدية، فحسبنا أن نقول إنه بكل بساطة لا يرتضي لنفسه السير في تيار واحد أو اتجاه واحد أو البقاء في حقل واحد.