المكان إذ يأفل.. المكان إذ يستعاد
ثقافة
2019/08/24
+A
-A
عبدالزهرة زكي
في واحدة من المرات التي كنت فيها زائراً لمدينة خرونيغن، شمالي هولندا، وفي واحدة من المرات التي كنت فيها أمضي في هذه المدينة متنزِّهاً بلا هدف سوى هدف النزهة، صادف أن اجتزت زقاقاً كان قصيراً، وكانت تلك هي المرة الأولى التي مررت بها بهذا الزقاق. كانت لحظات عبوري الزقاق قصيرة لكن أثناءها كان شيء ما قد نهض في داخلي بصدد المكان وأنا أجتازه، لم أفهم ذلك الشيء. عادةً ما أتأمل الأماكن وأفكر بها كلما كنت بمكان لم آلفه من قبل، وكلما كان المكان ملهماً بميزة ما فيه، لكني كنت لحظتها أجتاز المكان عابراً غير عابئ باي تفكير أو تأمل، كان هدفي في التنزه أبعد من حدود ذلك الزقاق الذي دلفت فيه صدفة، وها هو يوقظ شيئاً ما، ذكرى ما غامضة، لم أتبينها بالضبط وأنا أجتازه. وما أن اجتزت الزقاق وكنت خارجه حتى وجدتني أتوقف وأعود ثانية إليه.
حين غادرت الزقاق، وكنت خارجه، كنت في المكان المألوف مما اعتدت عليه في المدينة الهولندية وربما في مدن أوربية أخرى كثيرة تماثلها من حيث نظام العمارة أو من حيث الطبيعة التخطيطية للمدن هناك، وفي هذا المكان العام والمألوف تضاعف عندي الشعور بأني، في ذلك الزقاق الذي اجتزته، كنت في مكان آخر، كان هذا شعوراً يتعزز في ذهني كلما اندفعت بخطوة في مغادرتي الزقاق. لم أقف على تلك الذكرى ولا ذلك المكان الذي حضر في بالي بوحي من مكان الزقاق. يجب أن أعود إليه لمعرفة المكان الآخر الذي كنت فيه في أثناء مروري بالزقاق القصير، وهكذا استدرت وعدت إلى الزقاق.
وفعلاً ما أن كنت في الزقاق حتى تكشّفَ لي كل شيء.
في هذه اللحظة تجلّى لي أني كنت بهذا الزقاق الهولندي النافر معمارياً، أحيا إنما بمكان آخر، بتفصيل مكاني معيّن من شارع الرشيد ببغداد.
للمكان، لأي مكان روح، للعمارة ولتصميم المكان المحيط بالعمارة روح تتجلى عملياً للبشر الساكنين وللعابرين فيها. روح المكان لا تنقطع عن طبيعته المعمارية، العمارة ليست مجرد حجر وحديد وزجاج، ثمة روح، من دون هذه الروح سيكون المكان والعمارة فعلاً مجرد حجر وحديد وزجاج.
في عودتي للزقاق وقفت على روح ذلك الزقاق كما جسّدتها لي عمارته وشارعه. إنها روح أخرى من مكان آخر من زمن آخر، من شارع الرشيد البغدادي، من تفصيل مكاني محدد فيه، ومن لحظة زمنية أكثر تحديداً. لقد وضعني ذلك الزقاق الهولندي فجأةً في شارع الرشيد، وبالضبط في الممشى المسقف والمحدد بأعمدة خرسانية ضخمة، الممشى الذي تطل عليه المقهى البرازيلية في سنوات أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات. في ذلك المكان وفي تلك السنوات كنت قد عشتُ نهارات كثيرة كنت أقصد فيها المكان وبالذات المقهى البرازيلية فيه.
لم تكن في الزقاق الهولندي مقهى، ما كان في الزقاق هو عدد من المحال التجارية المتجاورة بنوافذ خشبية وواجهات زجاجية كبيرة، وكانت هذه تطل على ممشى مسقف تحمله من الجانب الآخر أعمدة خرسانية، وكان كل هذا يحيل إلى مكاني البغدادي السبعيني. كان يوماً مشمساً، وكان صباحاً بدا فيه الشارع شبه خالٍ من المارة كما هو صباح شارع الرشيد حينذاك.
الزقاق المصمم بأسلوب معماري قريب تماماً من تصميم شارع الرشيد لم يحلني لشارع الرشيد مجرداً، لم يوحِ لي بصورة أخيرة من صور الشارع البغدادي مما نصادفه عليها خلال سنوات التسعينيات وما بعدها. كان ذلك زقاقاً هولندياً حياً فيما هو أوحى لي بصورة ميتة من شارع الرشيد، من تفصيل معين منه، ومن لحظة زمنية آفلة.
***
ما يستعاد في المكان الغريب هو الصورة الماضية، الآفلة، من المكان الأول بعد مفارقته. يحصل هذا بالنسبة لسائح يمرّ عابراً بمكان جديد، وقد يصادف فيه ما يحيل لصورة من صور ماضي مكانه الأول. لكن الحال سيختلف بالنسبة لآخر منفي أو مهاجر. هؤلاء الناؤون، قسراً أو طواعية، ولفترات تطول، عن مكانهم الأول غالباً ما تظل الصورة الأخيرة للمكان الذي غادروه، وهي صورة زمن المغادرة، هي الصورة التي يتحرونها، سواء باستحضارها من خلال مكان آخر يصادفونه أو من خلال لحظات حنين.
هذه الصور المستعادة لا تظل رهينةَ السفر والهجرة. أحياناً حتى المكوث بالمكان الأول نفسه يستدعي صوراً آفلة عن المكان. هذه مشاعر متداخلة بالنسبة للمرء ما بين مؤثرات الزمان والمكان فيه. أنت في مدينتك تستعيد صورها الماضية كلما تقدم بك العمر، وبالاستعادة تقيم المقاربات والمقارنات. دائما ثمة حنين للأماكن القديمة، لكن هذه الأماكن حين تكون ضحية عاديات الزمن والظروف فإن المشاعر تجاهها غالباً ما تكون أشد حساسية. الأماكن وأزمنتها هي محيط ذكرياتنا وعالمنا الماضي.
واحد من الكتب التي صدرت مؤخراً عن دار شهريار البصرية كان للدكتور المهندس المعماري أسعد الأسدي، وكان بعنوان (أشياء وأمكنة). في واحد من مقالات الكتاب يؤكد المعماري البصري:” لا أبحث عن أمكنة أخرى، لا تؤرقني الأمكنة الأخرى، ما يؤرقني هو غياب الجمال عن المكان الذي أنا فيه. لا أفتقد أمكنة أخرى، أفتقد المكان في المكان الذي أنا فيه”.
لا يمكن هنا تجاوز الطبيعة البصرية خصوصاً في أوساط مثقفي وكتاب المدينة. دائماً ثمة انشداد للمدينة الأم، إنها المدينة الأولى بالنسبة لهم، وغالبا ما تكون هي مدينة المقام الدائم، وقد عبّر محمد خضير بمفهوم (المواطن الأبدي) عن هذا الانشداد. لكن أسعد الأسدي، وبخلاف ما تكون عليه طبائع سكان المدن البحرية، مدن الموانئ والبحارة والصيادين، ممن يميلون إلى السفر والهجرات وتغيير الأماكن، فإنه بالتعبير السابق لا يؤكد فقط الاهتمام بالمكان الذي هو فيه وإنما أيضا يؤكد تلك الخصيصة الثقافية البصرية:” لا تؤرقني الأمكنة الأخرى”، إنه ينعى الجمال الآفل عن مكانه الأول، غروب صور المدينة كما يحفظها الماضي وتخترنها الذاكرة.
قبل أسابيع شاهدت فيديو عبر يوتيوب، وكان لمواطن من الموصل، إنه بخلاف المعماري البصري مواطن مغترب عن مدينته، لكن هذا المواطن الموصلي حضر إلى مدينته الأولى في لحظة فاجعتها، كانت معه كاميرته، وكان ما بين الخرائب وحطام الحرب يبحث عن صورة منتجة لأثر هنا وآخر هناك من الموصل، موصله القديمة. كان التصوير بالنسبة له فعلاً استعادياً، روحاً تستنهض ما تبقى نابضاً من روح المدينة وسط الخراب.
***
حين عدت إلى الزقاق الهولندي، وحين استنهض في وجداني صورة الرشيد السبعيني، أوان شبابي، ومقهاه البرازيلية، استعنت بكاميرتي، فصوّرت المكان الهادئ والمشمس.
أردت بالصورة الحاضرة القبض على ما لم أصوره من شارع الرشيد ولحظته ومقهاه حينذاك.
وحتى إذ تجاوزت الأثر المباشر للمناسبة ووقعها في نفسي، وقد انجزت التصوير، فلم يكن لي سوى أن أنصرف عن الزقاق في طريقي لرؤية ما لم أره من المدينة. في العادة أبحث في المدن عما لا يحيل إلى صور مدينتي بغداد وعمارتها وطبائعها، وكانت مفاجأة ذلك الزقاق الهولندي مصادفةً خارجة على ما اعتدت عليه.
ولم أستطع طيلة ذلك النهار التحرّر من صورة وذكرى شارع الرشيد السبعيني المتهالك ومقهاه البرازيلية، وقد اندثرت.