سلام على الخضراء فوق متاريس النار

ثقافة 2019/08/25
...

شكر حاجم الصالحي 
 
لا أقول أن حبه لها ينماز عن غيره، لكني استطيع الزعم أن نصوصه تفصح عن حالات من الاندماج والوجد حد التلاشي والحلول في كيان وروح محبوبته، فهو في حبه أقرب الى الذوبان في مسراتها وأحزانها، نخيلها وصحاريها، عفتها وعذريتها، جموحها وانكساراتها، إنتظاراتها وأوجاع لياليها الموحشة، ومع أنه يحتفي بها وينشد لها بما لا يبوح به العاشقون لها سواه، إلا أن إصراره على التشبث بترابها والتغني بأيامها المورقات يدعو قارئه للثناء على إخلاصه والاستمتاع بما يقوله عنه في نصوصه التي تفيض عذوبة وحنيناً وجمالاً تفتقده الكثير من نصوص زمننا هذا، 
ومن هنا تأتي فرادة انثيالاته الوجدانية وعواطفه الباذخة، فالبصرة عند مجبل المالكي درة الكون وقطب الرحى ومنار الضالين في فيافي الدروب ومحطات الغواية، البصرة بكل ما فيها من افراح وأتراح حاضرة في مجموعته ( أحتفي بإعتكافي وانشد ما لا يبوح به العاشقون ) وبالرغم من العنوان الطويل لها، إلا ان توكيده على ذاتية الإعتكاف والانشاد كشف يؤيد ما ذهبنا إليه في مفتتح الكلام، فهو يريد حيازتها لوحدها لكنه يحتفي منفرداً بالاعتكاف والانعزال عن الآخر ربما له في ذلك أسبابه ودواعيه التي لا نتلمس أسرارها وخفاياها . 
 
سلاماً أيتها البصرة ... ايتها الخضراء المشتولة 
فوق متاريس النار هوىً متقداً ورماحاً 
مزقت الموج التتري وهول مفازات الريح 
سلاماً أيتها الجوهرة المغرورة في قاع العسجد 
يا عبق الليلك والآس 
ويا دوح عقيق من نبع الجنة 
ويا زهو قصائدنا 
وقناديل مرابعنا 
ويا مأواي ومنفاي 
تعالي ...  ص25
 
نعم هذه بصرة مجبل المالكي الذي غادرها طلباً للعيش الكريم وعاش سنوات بعيدة عن شميم عرارها ومواسم اخضرارها، وقد ظلت مزروعة في خلايا جسده المهاجر ونشيداً يردده في ليالي وحشته في بتسبرغ الأميركية وصنعاء العربية، وهكذا يتجلى وفاء الابناء البررة الإصلاء لأمهم الحنون، فكيف اذا كانت البصرة هذه الأم التي كسرت ظهرت وامتحنت صبرها في رعاية الأولاد في حضورهم وفي غيابهم، هي البصرة التي منحها الرب كل هذه الخصال والمحبة في قلوب من ولد في احضانها وشب في دروبها وعرف معاني السمو في منعطفات تحدياتها:
 
في مقتبل العمر 
أقمنا في نبع أجنتها غاباً 
نلتمّ بحضرته عشاقاً 
وصنعنا من حسك النخل نبالاً 
أعددنا لصدور الاعداء 
في مقتبل العمر 
نسجنا من شمس حدائقنا أثواباً 
وقلائد حبّ تشبه هالات النصر 
وأوسمة الشهداء ..... ص28
 
أفبعد هذا الحبّ من يومينا بالعقوق والجحود، فالبصرة تسري في الدماء وتنبض في القلوب، ولم يدخر البصريون والعراقيون جهداً وارواحاً في الذود عن صباحاتها وألق نخيلها عندما حاول الأغراب تدنيس ترابها، فقد أعطت البصرة مالم تعطه مدينة عراقية غيرها، ومازالت الى يومنا الملتبس هذا تشكو ظلم ولاة الأمر وغياب العدالة وانعدام فرص العيش الكريم... ومن جميل نصوص مجبل المالكي في هذه المجموعة المميزة ما وضعه تحت عنوان " لآلئ منفرطة" والتي ضمت خمسين مقطعاً مختلف المضمون والاسلوب والصياغة وحتى اللغة عن باقي المقاطع الخمسين ... وهو في هذا العنوان تخلص بذكاء من العنونة ووضع بدلاً عنها أرقاماً بدأها من ( 1 - الى 50) وهذا يؤكد قدوة المالكي بخبرته المتراكمة وثراء تجربته التي امتدت على أربعة عقود من زمن الشعر والحياة ... سأختار المقطع (38) خاتمة لهذه السطور فالمقطع يلخص تجربة الشاعر في غربته الموحشة فهو يقول : 
 
في كل سماوات الغربة 
أبصر شمساً لاتشبه شمس بلادي 
شاحبة الوجه وراعفة العينين 
أتحسس دفء ضلوعي في أحضان ربوع
لا تبرح ذاكرتي أبداً 
وأقيم بها مؤتلق الروح، 
ومغموراً - كالصوفي - بهالات النور 
ونشوة جمهرة العشاق العذريين ... .ص28