أساطير مراوغة الماضي للحاضر

ثقافة 2019/08/25
...

ناجح المعموري
أخذتنا رواية " احمر حانة "  للقاص حميد الربيعي نحو المتخيل السردي غير المألوف في السرد العراقي والعربي وذلك لانها استدعت ذاكرة كبرى ساردة " ابن اثير " ليعيش في مكان مدور ، هو العاصمة بغداد مع حضور لسارد اخر هو " الشيخ معروف ، ولكل منهما حضوره التاريخي والاجتماعي وكلاهما مرتبطان معاً ، لان التاريخي ثوب للمجال الاجتماعي وسردياته ومثل هذه التجربة مثيرة جداً بما خلفته من صعوبات في التلقي بسبب التداخل المخفي بين وحداتها المكانية والسردية .
 والطاقة المهارية التي تمتع بها حميد الربيعي للعب مع الشخوص وتنصيب ملامحها ، بحيث ظلت متوارية ، خاتلة في زوايا ذاكرة السرد ، تغيب فترة وتعاود حضورها البنائي من خلال حالة سردية لها علاقة بذاكرة السرد ، ومثل هذه المهارة في الابتكار وتوظيف اللغة المركزة الشفرية التي ابتكرت أساطيرها ، هي التي منحت " احمر حانة " حضوراً مشوقاً ، لكنه مغاير لما عرفته النماذج السردية التقليدية في البناء والنمطية كتوصيف
 الشخوص . 
لذا ظلت هذه الرواية متخندقة وسط فضاءات متنوعة ، متباينة ، قدمت العديد من الكشوف عن عصور وحقب قديمة جداً . وظلت كلها ممتدة بشكل سري ، تختفي تحت السطح وتغادر مجالها ، لكنها تصعيد بشكل مفاجئ وسريع من خلال شفرة معرفة لها ، ومقترنة بها منذ بدايات الاستهلال السردي ، ونجح القاص حميد الربيعي في توليف هذه النماذج ومنحها مجاورة ظلت متمتعة بوجود فني ، انفتح بقوة عن تعبيرات شعرية ، أضفت على الشخوص فرادة بغرابتها . وليس سهلاً الإمساك " بذي القرنين " والدور الذي لعبه الاسكندر المقدوني الممنوح تعويضاً كولونياكيا لاجتياح الجنوب والتواجد في الاهوار ، لتعطي المجال الكواونيالي حضوراً مغايراً ومختلفاً ، أخذه من بابل وأعطاه الاهوار من اجل سردية متخيلة ذات طاقة جبارة من التكون والنمو والحضور كذلك استمرارها في مواجهة المتلقي بقوة لحظة صعودها
 للسطح.
 وسردية الاسكندر تمثيل خفي للمماثلات تعرضت لها الحواضر المدورة في العراق . كما أن هذه الشخصية التاريخية ، ذات البعد الاسطوري ، تخندقت في سرود التاريخ ، لم تغادر تخيلاتها التي صاغتها الذاكرات الجماعية ، بل ظلت راضية وقانعة بكل النسيج المخلق والذي جعل منها أحدى شخصيات التاريخ الفذة ، مثلما تميزت بحضور قادر على الامتداد الهادئ / المرن بين وحدات السرد في هذه الرواية الاسكندر أنموذج خلق التوازن وسط المدينة المدورة وأيضا في الجنوب ، حيث الاهوار ، وتوازنه تمثيل ـ كما قلت ـ يخلق وحدة الأسطورة السردية / والشعرية ، من خلال صيد الحوت وما ظل حاضراً في أساطير مقترنة به . وأساطير " احمد حانة " كثيرة جداً ، وتمركزت حول الذكور
 / والإناث . 
مضافاً لذلك حشد الأساطير التي خلقتها الوحدات البنائية وجعلت منها صوتاً لم يغب ، بل حضوره قائم ، في لحظات أدرك حيويتها القاص حميد الربيعي . كل ما فيها ـ الرواية ـ ميثولوجيا بالذي نعرفه بسبب اللامألوف واللامعقول والذي ينطوي في أعماقه على مشابهات ببعض عناصر عرفتها الاساطير من قبل ، كذلك الواقع وما ابتكره من ميثولوجيات ، حدثت بعد عديد من الحروب ، وغزوات والتحاقات جسدية فوايرة ارتفع من خلالها السرد الايرويتكي بوظيفته البنائية أيضا ، فلم تكن ثنائية الاتصال الادخالي لذية فقط ، مثلما أشارت له الرواية برفعة شعرية وتوصيف طاغ بالكشوف عن أسرار الجسد الأنثوي ، الذي تكفل بلسانه الإعلان عن ارتباكات الجسد الذكوري . مضافاً لذلك كان للاتصال بين إدريس والعرجاء إمكانات هائلة في منح الجسد فرصة تنجيده ، لأنه يختبر إنسانيته ، لحظة
 مزاولتها .
لعل " ابن الأثير " أهم السرديات الاسطورية ، وربما تثير هذه الملاحظة استغراباً ، لانه شخصية تاريخية ، حقيقية ومعروفة على نطاق واسع جداً ، لكن وظيفته في الرواية تجاوزت حدود مكان معين ، هو بغداد ، المدينة المدورة ، وذهب ابعد من ذلك ، كي يجعل من تخيلات التاريخ والمجال الاجتماعي بؤرة ضاغطة وقوية جداً ، عندما دفع الى مدينة الموصل . التي جعل منها ـ الربيعي ـ سردية مختزنة بذاكرة " ابن الاثير " واستعادة أحدى وقائعها من اجل أن تتداخل الأحداث مع بعضها الأخر وتتعمق ، وتشير لما هو حاضر ، للقاص حميد الربيعي ماسك رؤوس الشليلة ، يومئ بها لحظة إدراكه بوجوب ذلك ، انه يفرز القارئ ويسعى الى اختباره عبر تراكمات الميثولوجية الكثيرة ...... أسطورة الاسكندر / والاهوار / والحوت / والبومة / والجنين سارق قطع الذهب / الشيخ معروف / ابن الأثير / أخوة الكهف الخمسة / الأربعة الذين حضروا وغاب الخامس / العرجاء التي ابتعدت عن زوجها خمسة عشر عاماً / والأسواق الخرازون/ الأخوة الذي تم الوصول لهم بالصدفة ـ السردية ورسموا مشهداً مثيراً
 للدهشة. 
فالذي يستولده التاريخ الميثي والديني القديم ، لا يذهب بعيداً عن الفضاء الذي صاغه وشكله وتجانس مع السائد بحضور الدمار من خلال تشكلات لها وظائف
 إرهابية .