الجينات الثقافيَّة

ثقافة 2019/08/25
...

مهدي القريشي 
نجح علماء أميركيون في تعديل جينات بشرية لإزالة طفرات  جينية تُسبِّب قصورا في القلب لدى الشباب الاصحاء حسب تقرير لصحيفة الغادريان البريطانية ، وتعمل تكنولوجيا 
(كريسبر-كاس 9) مثل مقص للجزئيات تتيح التخلص من الأجزاء غير المرغوب فيها لتحل محلها اجزاء من الحمض النووي الوراثي . لكن علماء الوراثة سيجدون صعوبة في تعديل بعض الجينات او خلق أجنة بمواصفات بعينها . ورغم ما فاضت به هذه المرجعيات من علم فأن لنا الحق أن نضيف له قناعات اخرى 
الجينات الثقافية قد تكون مصطلحاً جديداً وغير متداول حتى اللحظة لكنني استخلصته من خلال تجاربي  الحياتية ، خاصة مع الذين وِلِدَ  آباؤهم  وأجدادهم في الأرياف وقد فرضت على  هؤلاء  ممارسات  سلبت منهم  إنسانيتهم  بعد ان لحق بهم حيف كبير مما ساعدهم على التفكير في الهجرة الى المدن وخاصة بغداد . 
الأبناء  الذين ولدوا في بغداد بعضهم  دخل  مدارسها وكلياتها وتبادلوا الثقافة مع السكان الأصليين في المدينة وخبروا سلوكياتهم وكيفية ممارستهم للحياة الاجتماعية والمدنية وانخرط معظمهم خاصة من تعلم في المنظمات اليسارية ، وقد وفرت لهم المدن الكثير  من المتنزهات  ودور السينما وصالات المسارح والمكتبات وهذه الأخيرة  منحتهم مئات العناوين من الكتب الادبية والثقافية والفنية  والسياسية وغيرها  هذه الأيقونات الثقافية كانت ضرورية لإغرائهم  للعمل في الثقافة والآداب وبالتالي ادرك الكثير منهم حرفة الأدب والصحافة والفن والكتابة وتفوقوا فيها ووصلت شهرة بعضهم الى العربية والعالمية وحصدوا الجوائز في معظم الاجناس الثقافية   وتبوؤا المراكز الثقافية كرؤساء تحرير لمجلات ودوريات  وصحف يومية وأسبوعية. هذه الأجيال خلعت  جلباب الآباء والأجداد ظاهرياً بعد ان  ادعوا تبنيهم لمفاهيم معاصرة كالحداثوية والمدينية وآمنوا(شكليا) ودافعوا عن الدولة المدنية وناصروا المرأة في حقوقها . ولكن رغم كل ذلك بقيت جينات الأسلاف نشطة ومتحفزة وجاهزة للظهور في اَي موقف يتطلب ذلك و في مأمن من فر ض إرادة الجينات  الثقافية المكتسبة نظراًلقوة ارادتها المستندة على إرادة الأسلاف ، بل كان لها التأثير الفعال في توجيه حاملها  الى السلوكيات الاجتماعية المتساوقة مع أهدافها  بدون أية عوائق تذكر .فبأختبار بسيط لأحدهم في ان يذكر اسم زوجته امام الأصدقاء لأي سبب كان تتحفز  جينات الأسلاف الثقافية لتنتصر وبكل سهولة على الجينات الثقافية المكتسبة  ، خاصة في الحوارات الشفاهية ، وتضمحل أمامها جميع الأفكار المستلهمة من الحياة الثقافية والاجتماعية للمدنية فيما لو سمح القدر لأحدهم من مشاهدة ابنته الجامعية مع زميل لها داخل اروقة الجامعة . . 
ولم تقف جينات الأسلاف مكتوفة اليدين او تمثل الدور السلبي بالنسبة للعراقيين الذين امضوا قرابة الربع قرن في بلدان الغرب وأمريكا والذين يتباهون كونهم اكتسبوا ثقافة ما بعد حداثوية من المجتمعات المتنورة والمتقدمة علمياً وثقافياً وتشبعوا بها وقد تبوأ معظمهم مناصب ثقافية حين عودتهم الى العراق ، ويفتخرون بوفرة كتبهم ودراساتهم المتنوعة  ، لكننا لم نر اَي واحد منهم قد مارس دورا متحضراً أمامنا بتأبطه ذراع زوجته او صديقته وهو يدخل  علينا في اتحاد الادباء او في اي من المنتديات الثقافية او المقاهي الادبية، مستبعدين المحافظات لأسباب معروفة ، على الأقل ليغيضونا  ويثبتوا  لنا انهم   كانوا  في بلاد الإفرنج  باستثناء رئيس الجمهورية السيد برهم صالح حين تأبط ذراع زوجته في شارع المتنبي  .  اما من امتهن الفنون السمعية والمرئية او المسرح فلم يجدوا في قواميسهم الدرامية سوى إضحاك الجمهور على لهجة أهل الريف والانتقاص من فعاليات الاسلاف والضحك عليها ولم يغادروا هذه المنطقة لوقتنا الحاضر . 
جينات ثقافة الاسلاف لم تكن محافظة على كينونتها فحسب بل نمت وانتقلت بالوراثة ( كما حصل لجينات مندل ) لامتلاكها رصيدا معنويا واشتغالات مؤثرة باستنادها على التراث الذي منحها القدرة على سحق المفاهيم الجديدة ، انتصارها يمثل ضعف وانهزامية الجينات الثقافية المكتسبة واضمحلال دورها واستسلامها في اول منازلة حضارية ، وهكذا يظهر زيف المتحضر المصطنع والاستعلام الفارغ ....