{بوغيز العجيب}.. في البصرة

ثقافة 2019/08/27
...

البصرة/ صفاء ذياب
 
احتفت دار المكتبة الأهلية في مدينة البصرة بصدور الطبعة الثانية لرواية ضياء جبيلي (بوغيز العجيب)، الرواية التي صدرت طبعتها الأولى في العام 2011 عن دار الدوسري في البحرين، ولم تصل العراق أو تأخذ حظّها في القراءة والتوزيع. الجلسة التي قدّمها الناقد مقداد مسعود، أشار فيها إلى أهمية هذه الرواية بالنسبة لنتاج جبيلي، موضحاً أنه ابتكر في هذا العمل ثيمات جديدة لم تشتغل عليها الرواية العراقية، خصوصاً أنها تناولت ثورة الزنج في مدينة البصرة، والبحث عن العنصريات التي كانت سائدة في حينها.
افتتح الجلسة مصطفى غازي، صاحب الدار، الذي بيّن أنه كان متحمّساً لإصدارها، لأهميتها أولاً، ولأنها لم تكن متوفرة أصلاً في العراق، وهذا ما أشار إليها الروائي ضياء جبيلي، الذي وضّح في كلمته أن من حظ هذه الرواية أنها صدرت قبل مدّة وجيزة من انطلاق ثورة البحرين، على الرغم من كتابته لها في العام 2008، غير أن التأخر في نشرها، جعلها تتوافق مع الأحداث الخطيرة التي مرّت بها البحرين، فلم تتمكن الدار حينها من الإعلان عنها، ولا من إيصال نسخ كافية له شخصياً، فلم تصله إلا نسخ معدودة لم تمكنه من توزيعها على المهتمين.
وأضاف جبيلي في كلمته التي أسماها (بوغيز العجيب.. قصة رواية)، أن الكثير من الكتّاب يشعرون إزاء البواكير من أعمالهم بشعور البراءة منها، والتخلّي عنها، رغم ارتباط اسمائهم بها شاؤوا ذلك أم أبوا. وربما يتمنى أحدهم لو أنه لم يكتب هذه الرواية أو تلك القصة، خصوصاً إذا أصاب خلال الأعوام التالية بعض الشهرة. وبالتالي تشكل له هذه البواكير هاجساً أبدياً مقلقاً، فهو يحاول تلافي الحديث عنها، ويرفض إعادة طباعتها، بل يسعى أحياناً إلى محوها، أو على الأقل، يجهد نفسه بألا تقع في أيدي القراء ما أمكنه ذلك.
أما عن هذه الطبعة، فقد كشف جبيلي أنه حاول في أثناء ذلك أن يكون قارئاً فحسب وليس بصفته كاتبها، و”أنا أقرأ، شعرت كما لو أني أتفحص جسد أحد أطفالي، طفل غاب عني منذ سنوات، وها هو الآن بين يديّ ثانية، أتفحّص أطرافه لأرى إن كان ثمة ما طرأ عليه، هناك بين الغبار والكتب المنسية، سيئة الحظ. شعرت في حينها بحميمية وألفة بدّدت خوفي من البواكير التي لا تخلو من مراهقة أدبية، قد تبدو واضحة من بعض التعابير والمفردات..
أما عن موضوعة الرواية، فقال جبيلي، أن موضوعة الزنج شغلته كثيراً، ومنذ فترة طويلة، و”كنت أمنّي النفس بالكتابة عن هذه الحركة التي طُمست معالمها بشكل غريب، ولا نكاد نعرف عنها شيئاً باستثناء ما رواه البعض من المؤرخين بنظرة أحادية الجانب. فهناك حركات لم تستمر سوى فترة زمنية قليلة، كُتب عنها الكثير، فكيف الحال بحركة أسست دولة وعاصمة استمرت لأربع عشرة سنة؟ لو أن مدوناً، مثل “أسد ناتوبا” في رواية يوسا “حرب نهاية العالم” أو الصحفي قصير النظر رافق علي بن محمد، في أثناء ثورة الزنج، وأفلت من مذبحة الموفق العباسي، لكان لدينا الآن حقائق كثيرة من داخل “المختارة” بدلاً من مرويات باتت الآن تفتقر إلى حس المؤرّخ المنصف، غير المنحاز، من أمثال تدوينات الطبري وابن كثير وحتى ابن خلدون. فالحال لمن يرى من داخل الغابة، يختلف عما هو عليه لمن ينظرون من الخارج. لقد طُمست معالم هذه الثورة بشكل فظيع، حتى لم نعد نعرف منها سوى ما كتبه فيصل السامر وكرّره أحمد علبي، وبعض المقتطفات هنا وهناك، كما وصوّرت على أنها حركة عصابات ونهب وسلب وقتل فقط، بسبب عدم أمانة التوثيق والنقل، ودفن الحقائق التاريخية.. وهكذا، على سبيل التعويض، حتى حين الحصول على أكثر قدر من المصادر والمعلومات، من أجل تحقيق الحلم بالكتابة عن هذا الحدث الكبير، ولدت فكرة بوغيز العجيب، من رحم هذه الثورة. لكن بطريقة مغايرة، ومختلفة، وقد تكون بعيدة كل البعد عن موضوع الثورة الحقيقية، اللهم إلا في موضوع الزنوج. فبوغيز المظلوم هو الآخر سليل هذه الحركة، وقد سوّطت الشمس المحرقة ظهره”.
واعتمد جبيلي في روايته هذه ثيمة المخطوطة كمدخل إلى عالمها الداخلي، من خلال التخييل، والبناء على حدث تاريخي متخيل، في مكان موجود هو البصرة القديمة، في القرن التاسع عشر، حينما كان لها أبواب خمسة، فموضوعات مثل الخصاء، الرق، الظلم، والجهل والتعصب المجتمعي، فضلاً عن الجنس، كوّنت نواة الرواية التي انطلقت منها الأحداث، لتحاكي تاريخاً منسياً، وتفاصيل حياة لم يسجلها التاريخ.
وهكذا، أصبحت بوغيز العجيب أشبه بثورة زنج مصغّرة تدور في حيز بحجم محلة من محلات البصرة في ذلك الزمان.
وفي  حديثة عن هذه الرواية، بيّن الناقد جميل الشبيبي أن هذه الموضوعة لم تكن جديدة تماماً على السرد العراقي، خصوصاً إذا قرأنا روايات مثل (الشاهدة والزنجي) لمهدي عيسى الصقر وغيرها، على هذه الثيمة ليست بالمتداولة عموماً، أما عن تناول جبيلي لثورة الزنج، فأكد الشبيبي على جمالية البناء الفني للرواية والطريقة الذكية التي دخل بها جبيلي لجسد الرواية، والزوايا التي التقط منها رؤيته في معالجة ثورة الزنج كتاريخ خاص لمدينة البصرة.
في حين كانت قراءة القاص محمد خضير لهذه الرواية من زاوية مختلفة، فقد وضعها ضمن السياق الإبداعي لضياء جبيلي، من خلال علاقاتها مع الأعمال الأخرى له، فإذا أخذنا- على سبيل المثال- روايته الأولى (لعنة ماركيز) ومن ثم روايته التالية (تذكار الجنرال مود) نلاحظ أن كل رواية من روايات جبيلي تحيل على الأخرى، خصوصاً إذا تمكنا من فهم السياق الثقافي الذي يعمل عليه هذا الكاتب.
كما شارك في الجلسة الدكتور سلمان كاصد والشاعرة بلقيس خالد، متحدثين عن ثيمة الرواية وأهمية ضياء جبيلي بالنسبة للجيل الذي خرج منه.