أحيانا أقف حائرا أمام قضية ما للكتابة عنها، هل اختار الكلمة المناسبة كاستهلال لها ؟ أم اختار جملة تعبر عن بداية الموضوع؟، واعتقد اننا جميعا نعاني من هذه المحنة الأسلوبية، ففي هذه المقالة مثلا، والتي ابتدأت بكلمة”أحيانا” وجدت أنها كلمة لا تفي بالغرض الذي أريده، كما أنها ليست كلمة محفزة للاستمرار، فالمضاد لها حاضر فيها، وهو “اللاحين”، في حين أن الجملة التي تكونت في بداية المقال “أحيانا أقف حائرا أما قضية ما للكتابة عنها”، فيها ما يمكن أن ينمو من داخلها، أو يضاف إليها من خارجها، ومع ذلك فهي جملة مبهمة لا تكفي للمضي طويلا في ملء سلة المقال بما أريد. ثم أصل إلى الاعتقاد” بأننا جميعا نعاني من هذه المحنة الأسلوبية”، وهي الجملة الثانية، التي ستمهد لي الطريق للدخول إلى غابة المقال، ومع ذلك فهي جملة وصفية لا يمكن الركون لقدرتها على توليد أية جملة لاحقة، تكتفي بمعناها التعجيزي من أننا غير قادرين على حسم موقف فيه إشكالية أسلوبية.
ثم أعود لا قفل الدائرة على نفسي”ففي هذه المقالة مثلا” وأروح أشرح المحنة التي بثتها الكلمة الابتداء”احيانا”، لأجد نفسي وقد أغلقت الدائرة على ما أريد، فابتعدت الفكرة وموضوعها، وبدوت كحاطب ليل، أو كرمح بيد شانشيز وهو يصارع طواحين الهواء.
ليس الموضوع عودة للجملة الاستهلالية، والتي يسيء البعض استعمالها، إنما للحديث عمّا يسبق الاستهلال، فالاستهلال يأتي بعد أن يكون ثمة شيء ما سيكتب، لكني هنا أتحدث عن شيء ما لم يكتب بعد، وحتى لم يفكر به، ومع ذلك تجد الملحنين يتدربون على ترديد أصوات مبهمة قبل أن تستقر الأصوات على نغمة معينة، وعندما تستقريبحث بعد ذلك لها عن الكلمة الملائمة، فاللحن يسبق كلمات الأغنية، هذه المرحلة التي تسبق الشيء، وتكتفي بموقعها في بنية النص،لايمكن الغاؤها، حتى لو لم تكتب، فالكلمات والجمل ليست إلا مداخل لغرفة النص، بعد أن تعين النص، والتي غالبا ما تكون المداخل مظلمة، ومقفلة، والطريق إلى باطنيتها غيرسالكة، ومحفوفة بالأخطار، وقد تنجح الرحلة إلى داخل صندوق النص، عندما يكون بيديك مفتاحه، وقد تفشل عندما يكون في يدك أكثر من مفتاح. ففي كل الأمور تعود المسألة إلى المفتاح المعين(الجملة الاستهلالية) الذي يمهد الطريق لاندلاق اللسان.
ولكن هذا المفتاح، لم يأت وحده ليدخل ثقب الباب، بل أن الثقب نفسه قد أختار مفتاحه، يعني ذلك، أن أية بداية ليست مكتفية بما تقول، بل هي أساس لا قول يميزها، ، إلا متى ما أذن النص لها القول. عندئذ لا تكون ثمة جمل دائرية في النص، وكأنك تبحث عن الأبرة في كومة قش. وعلينا أن نعرف، أن ثقب الباب، لا يتوجه إلى الخارج، فهو غطاء رحمي، وجهه إلى الداخل، وافتضاض غشائه يعني تمهيدًا للمرور عبر قناة فالوب لرحم النص، أما المفتاح، فيتبع صياغته اللغوية، ففي العربية والإنجليزية يكون المفتاح مذكرا، بينما في الفرنسية كما يقول أصدقاؤنا المغاربة فهومؤنث.
بينما يكون القفل في اللغة العربية مذكرا أيضا، وفي الفرنسية مؤنثا. اين مربط الفرس؟ في الكلمة التي تعين الأداة، أم في الكلمة التي تفرغ من معناها القاموسي؟ في حال المفتاح والقفل، ليسا هما من يعين ويحدد المدخل إلى بيت النص، بل ممر القفل(قناة فالوب) الذي يشترك القفل والمفتاح في صياغته، وجعله طريقا لرحم النص.
نعود ثانية للأستهلال، بمن نبتدئ، بالكلمة أم بالجملة؟ فمن خلال السياق، الذي تكون من تضافر المفتاح والقفل، أن الجملة الاستهلالية، هي الجملة التي لا تنتمي لأي طرف في المعاني، لا للمفتاح ولا للقفل، بل هي مجموعة من المعاني تضافرت فألفتها، شأنها شأن الثقب(الممر) الذي صاغه تضافر القفل والمفتاح، فهي البنية الثالثة التي تكونت عبر جدلية القفل والمفتاح، وعندما يصار التفكير ببنية الجملة الاستهلالية هكذا، سينمو النص معتمدًا على قائمتين اثنتين حتى يكتمل معناه، عندئذ يكون بيت النص منفتحًا على الولادات والتحولات.
أعود لمقالي، فقد تبددت حيرتي الآن، بعد عثوري على القناة الممر التي اشترك في صياغتها،القفل والمفتاح، وعلى رأي بارت، الكتابة عملية جنسية، أما نوع المكتوب: رواية، قصيدة، مسرحية، لوحة فنية، مقال نقدي، أطروحة فلسفية،...إلخ، فليست إلا مجموعة من العمليات التي كل فكرة فيها تحتاج إلى قفل ومفتاح خاصين بها، فالنص مجموعة من الأقفال والمفاتيح والممرات، التي تعمل في شعاب حياتنا لفتح ممرات لاخصاب الافكار الكائنة في رحم الوجود. ومن يتأمل وهو يكتب نصا روائيا مثلاً كم من الأقفال والمفاتيح عليه أن يحضرها قبل واثناء وبعد الكتابة، الكتابة ليست إلا تحريك هذه الكمية الهائلة من المفاتيح والاقفال للوصول إلى الغرف المظلمة في الذاكرة الشخصية، للذاكرة الجمعية للناس.
لا تبدأ بفكر النص، وأنت تسير على قدم واحدة، فالتناقض ضروري لأنه يصاحب أية فكرة، ومن داخل نتاج التناقضات ينمو النص الذي يمكنه أن يعبر من ذاكرتنا إلى الوجود.