لا ريب ان للجزائر في نفوس العرب كافة مكانة خاصة جداً، وان الشعب العراقي بنحو خاص اعتبر تحرير الجزائر من قضاياه المركزية. واتذكر ان مدارسنا في مناسبات وطنية كثيرة كنا فيها نردد بحماسة النشيد الوطني الجزائري: قسما بالنازلات الماحقات والدماء الزاكيات الطاهرات ... نحن ثرنا فحياة أو ممات . وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر.. فاشهدوا... فاشهدوا...
لقد مضى على استقلال الجزائر أكثر من نصف قرن (57 سنة) وما زالت جزائر اليوم تبحث عن طريق ضحت بالملايين من شعبها في سبيله. طريق الحرية والديمقراطية الذي بات الهم الاساس للحراك الشعبي . الحرية التي غنينا لها سابقاً (قسماً)، والحرية التي يشدو بها نجم الراب الجزائري عبد الرؤوف دراجي المعروف باسم “سولكينغ” بعد ان اصبحت أغنيته “لاليبرتي” (الحرية) هي”النشيد الوطني” الذي يردده شباب التظاهرات وجموع الحراك. كيف يمكننا ان نفهم اليوم حركة الاحتجاج التي تضج بها الشوارع الجزائرية وبخاصة في كل جمعة منذ 22 شباط الماضي على كامل تراب الوطن للمطالبة في بادئ الأمر بعدم التمديد لولاية خامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي حكم الجزائر طيلة عقدين من الزمان بصلاحيات استثنائية، واليوم بتحدي ملفات الفساد المالي والاداري كافة والاشراف والمتابعة لتنظيم انتخابات رئاسية نزيهة.. فالشعب الذي يشكل الشباب ثلثي منه لم يعرف نصفهم تقريباً غير بوتفليقة رئيساً.
اذا عرفنا مقومات الحراك الجزائري فسوف نعرف بالتأكيد الى اين يمضي؟ وهو ما يقتضي منا رسم صورة واقعية ميدانية لما حدث وسوف يحدث لهذا الحراك الشعبي :
أولاً : لم يعد شباب الجزائر مقتنعين بما يجري في بلادهم وهم يتواصلون في عصر المعلومات وانسيابيتها عالمياً ان بلدهم في عام 2018 قد تموضع بالمرتبة105 من بين 180 دولة في معدل النزاهة . وان عائدات النفط والغاز التي بلغت 33 مليار دولار عام 2017 تذهب في غالبيتها لقادة في السلطة يحكمون ورجال اعمال متعجرفون . ثانياً: على عكس ما تقدمه لجنة الحوار التي عينها الرئيس الجزائري المؤقت عبد القادر بن صالح ، تطالب حركة الاحتجاج بمرحلة انتقالية تقودها شخصية وطنية او هيئة رئاسية توافقية لانتخاب خليفة للرئيس بو تفليقة . وتعتبر ان مسعى الحوار الذي اطلقته الهيئة المعينة من السلطة مرفوض لانها تسعى لارضاء السلطة وليس ارضاء مطالب الحراك. فالحراك يرفض انتخابات يشرف عليها رموز النظام السابق. ثالثاً : اتسمت حركة الاحتجاج بطابعها السلمي طيلة الاشهر الماضية وهي حالة نادرة الوقوع في كل التظاهرات الدولية.. العنف الوحيد الذي وقع مأسوفاً عليه عندما تدافع الشباب أمام أحد مداخل ملعب “20 أوت” الرياضي في العاصمة قبيل حفلة مغني الاحتجاج “سولكينغ”الذي مات نتيجته 5 شباب. ومع ذلك تجد القاضية وعضو اللجنة الرسمية للحوار فاطمة بنابو ان التظاهرات وان كانت سلمية فإن العيش المشترك عسير في الجزائر بسبب عنف المجتمع وتقول “ اذ ربما يضربني البعض في الشارع لانني ارتدي ملابس لا توافق معتقداته”.
رابعاً: على عكس ما يدعي البعض من ان حركة الاحتجاج لا قادة لها فإن هذه الحركة تحظى بدعم وتأييد عشرات الجهات والشخصيات ومنها : مجموعة اللقاء التشاوري للمجتمع المدني ، نشطاء المواقع الاجتماعية ، قوى المعارضة التقليدية،. مرّشحون للرئاسة مثل: رجل الأعمال الشهير رشيد نكاز مرشح الشباب والتغيير، ورئيس الوزراء الجزائري الأسبق علي بن فليس رئيس حزب طلائع الحريات، المرشح الجنرال السابق علي غديري .
ومن الاحزاب: حزب العمال وزعيمته لويزا حنون التي تقبع بالسجن بسبب نضالها، حزب الاتحاد من أجل التغيير والرقي بقيادة زبيدة عسول الناطقة باسم حركة مواطنة التي كانت من أوائل من دعوا إلى التظاهر وأهم وجوهها هو سفيان جيلالي رئيس حزب جيل جديد ، المعارض الاسلامي عبد الله جاب الله وعبد الرزاق مقري، وعدد من النقابات ومنها نقابة الاطباء وطلبة الجامعات ، ومنطقة القبائل ذات الغالبية الأمازيغية التي شاركت في المسيرات بكثافة، وخاصة جبهة القوى الاشتراكية التي اسسها المجاهد حسين ايت احمد، وحزب التجمع من أجل الثقافة. ومشاركة شخصيات تاريخية مثل المناضلة جميلة بوحيرد(84سنة) في المسيرات وهي التي خاطبت شباب الحراك الشعبي قائلة:” لا تدعوهم يفسدون نبل معركتكم،لا تتركوهم يسرقون انتصاراتكم، فضلاً عن مشاركة حشد كبير من المثقفين والفنانين والأكاديميين. خامساً : ان فرنسا التي استعمرت الجزائر طيلة 132 سنة ابقت على بعض النفوذ فيها ويطلق الجزائريون على المتعاونين معها “حزب فرنسا”. ويرى البعض أن الحراك الشعبي يستهدف فرنسا بالتحديد. لذلك تتخذ فرنسا موقفاً حذراً جداً من الحراك خشية الغضب الجزائري. والامر سيان بالنسبة لواشنطن التي تفضل التدخل الخفي بشؤون الجزائر، ومع ذلك فإن مجلس العلاقات الخارجية الامريكية يحذر من استمرار فراغ السلطة وتدهور الأوضاع الاقتصادية وانخفاض أسعار الطاقة التي تمثل 90% من الدخل القومي مما يفاقم الغضب الشعبي ويكون له تبعات خطيرة .. إن الاحتجاجات الأخيرة - كما ترى مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي- سلطت الضوء على عامل اخر له خطورته وهو الانقسامات داخل طبقة رجال الأعمال.. سادساً : على الرغم من مضي اشهر على الحراك فان التيارات المجتمعية كلها - كما يقول مدير مركز الدراسات المتوسطية حسني عبيدي لم تقل حماستها وتصر على رحيل النظام باسره. وتتعاظم مطالب الاحتجاج وتدعو السلطات والجيش الجزائري الى استلهام تجربة السودان وفتح باب الانتقال الديمقراطي.
تلك هي باختصار الصورة الميدانية لما يحدث في شوارع الجزائر من حراك شعبي سلمي عقلاني يرنو الى الانعتاق من قيود العسف والفساد والفقر، وشعب المليون شهيد قادر ومعه كل المحبين له على تحقيق مطالبه وقادر على صيانتها على الرغم من كل التحديات .. فالحرية الحمراء التي كانت بكل يد تدق لم تعد كذلك.. الحرية هي اليوم انشودة بيضاء يغنيها شباب الحراك الاحتجاجي و”قسما” سنغني لها .