لا فرار من مواجهة القبح سوى الموت

ثقافة 2019/08/28
...

نسرين البخشونجي
 
 
ليس من السهل ابدا أن يناقش الكاتب فكرة التغيير الاجتماعي، الثقافي والاقتصادي في مصر من خلال نص أدبي دون الوقوع في فخ المط والتطويل بل ان الكاتب حسين عبد العليم قدم تناولا جديدا لهذه الظاهرة من خلال سرد بسيط رغم عمقه في رواية لم تتجاوز المئة صفحة. ولم ينشغل بتقديم لغة معقدة ولكنه فضل الرمزية في النص.
“فصول من سيرة التراب والنمل” رواية تشبه الدائرة أنتهت من حيث بدأت بموت الطبيب عزيز بشاري فانوس عام 1998. ومن خلال النعي الذي استهل به الكاتب روايته تعرفنا على تفاصيل كثيرة تخص بطل الرواية مثل ديانته، حالته الاجتماعية وظيفته ووظيفة والده، زوجته الراحلة “عايدة سنادة” وحالة عائلتها الاجتماعية وابنيه فؤاد وفاروق. وكأن النعي تلخيص أنيق لشخوص روايته. 
لم يهتم حسين عبد العليم بفكرة الإطار الزمني لروايته, فاستهل كل فصل بالعام الذي تدور فيه الأحداث. تبدأ الرواية عام 1982 من خلال صراع الدكتور عزيز وولديه مع التراب والنمل حيث بدء في الظهور في البيت بعد وفاة الأم عايدة عام 1977 رغم محاولاتهم الحثيثة للتخلص منهم سواء بالتنظيف المستمر أو بالمبيدات الحشرية على مختلف أنواعها. ولكن لم تنجح أي وسيلة في التخلص منهما. بل على العكس فإن النمل والتراب والعفن صاروا جزءا أصيلا من غرفة الدكتور عزيز بحلول عام 1998.
 ومن خلال مشهد النهائية الذي جاء مؤلما جدا “ عندما عاد في الثالثة عصرا دخل إلى حجرة الدكتور عزيز مباشرة, فوجئ به مستلقيا على ظهره في السرير, صغير الحجم كالطفل, منكمشا, شاهد فؤاد بنفسه مئات من أسراب النمل تدخل وتخرج من أذنيه وفمه, فأدرك أنها النهاية وأجهش باكيا.” وكأن توغل أسراب النمل وكثرة التراب الذي لا يزول من البيت رمزا لتوغل القبح وزوال الجمال من الوطن.
شخصية الدكتور عزيز تشبه قطاعا كبيرا من المجتمع المصري في ذلك العهد, فهو رجل ملتزم اخلاقيا واجتماعيا. حين قرر الزواج بحثا عن فتاة من عائلة محافظة, دون أن يمر بأي تجربة عاطفية مع امرأة قبل عايدة. وكذلك عايدة, لكنها كانت مثل بنات جيلها تحتفظ بصور الأميرات المنشورة في الجرائد والمجلات وتضمهم لألبومات الصور التي خصصتها لكل المناسبات. لكن الحياة تغيرت من حوله وكان هذا التغيير سببا في تعبه “ كل أوضاعي سلمية, ليه الزمان انقلب كده.”
الرواية مليئة بالإشارات والرموز التي أراد الكاتب ان يوصلها للقارئ بشكل غير مباشر, مثل تغيير الذوق العام فالشعب الذي كان يسمع أم كلثوم وعبد الوهاب, وكانوا يتمتعون بالهدوء في أثناء جلوسهم في المقاهي حيث كان “الصمت مقدسا” صار يستمتع بالأغنيات الصاخبة وصار صوت المسجل العالي وحين ذهب إلى قسم الشرطة ليشتكي قال له أمين الشرطة “طب دا كل الشارع زايط..انت مش واخد بالك, أص دا أهم شارع تجارى في البلد.” بدء شعور الدكتور عزيز بالغربة والوحدة يزيد منذ عام 1992 وحتى وفاته عام 1998, فكل الأماكن الجميلة المقاهي والأوبرا التي كان يستمتع بالجلوس فيها صارت ماضيا. 
في مشهدين مختلفين أشار الكاتب حسين عبد العليم لحالة الجهل التي بدأت في السيطرة على الناس. ففي لحظة انفعال للدكتور عزيز داخل عيادته قال لإبنه فؤاد “اتفضل يا سيدي..الحمار جي يكشف على طفل عيان..قبل الكشف بيقول لي اكتب لنا مضادا حيويا.. خلاص حضرته قرر إن ابنه محتاج مضاد وأنا  أنفذ.” وفي مشهد اخر في أثناء 
حوار الدكتور عزيز قال له ابنه فؤاد ان صديقه الطبيب النفسي قال له ان 
وجود التراب بهذه الكثافة دليل على حزن البيت على أمه الراحلة فرد عليه والده 
“انت عاوز علاج نفساني انت 
وصاحبك.”
كرواية تناقش تغيير المجتمع المصري على مستويات عدة, لا يمكن أن تخلو من السياسة خاصة أن الدكتور عزيز وعائلته شهدوا كل التغيرات السياسية التي حدثت في مصر بداية من عصر الملك فاروق وصولا إلى عهد الرئيس مبارك. ورغم التزام الدكتور عزيز بالحديث في السياسة إلا انه كان سعيدا بعبد الناصر بل وبكاه حين توفي.
“ عندينا في الصعيد مفيش ورث للبنات..اللي مش عاجبه من اجوازهم يخبط راسه في الحيط” رغم قصر النص السردي إلا أن الكاتب لم يغفل هذه القضية الاجتماعية المهمة إذ إن النساء يحرمن من الميراث في الصعيد والتي مازالت موجودة حتى حاليا ولكن بنسبه أقل. لذلك كانت محاولات عايدة وإخواتها للحصول على ميراثهم الشرعي واحدة من المشاهد المهمة في الرواية.
في رواية “فصول من سيرة التراب والنمل” الصادرة عام 2003 عن دار ميريت بالقاهرة, لم يشعر عزيز بالحزن لأنه أدرك أن الموت قريب منه جدا بل كان حزينا لأنه سيترك ابنه فؤاد وحيدا وتمنى ان يموت معه. “ دخل الدكتور عزيز حجرته وأغلق على نفسه الباب. كل حاجة حلوة بتخلص..عايدة مشيت..وعبد الناصر مشي..ولبنى خليل مشيت..وفاروق مشي..وأنا كمان همشي..ياعيني عليك يا فؤاد يا بني..هتواجه الأيام دي لوحدك إزاي!؟”