شريط حياة.. شريط سينما

ثقافة 2019/08/31
...

زعيم نصار
 
هوى أخوها، 
من السقالة، 
من الطابق التاسع 
وأتوها بفردتي حذائه، 
ساعته اليدوية، 
ودفتر انهاء جنديته،  
استبدلت زينب ثوبها الأحمر بآخر أسود 
وفقدت الرغبة في الدنيا مدى الحياة. قصيدة( قصة حياة)
 
من أول قصيدة هي قصة حياة حتى قصيدته الأخيرة التي خارج الأيام، في كتابه القصيدة تشبه اليوم.
ينقذ رعد مشتت شعره المشرَّع الأبواب على الحرب والفواجع وغرائب الحياة، ينقذه من العبوديات الدارجة لأوهام كتــّاب الشعر هذه الايام. ينقذ شعره من نزعة الارتزاق وتزلف الجمهور ومراعاة ذوقه، أو استجداء تصفيقه، وترغيبه بالتلقي، ينقذ ذاته الشعرية من هوس الظهور والتصنع، والتهريج والتبرج بقصد استمالة القارئ:
 
في مأتمِ جدي، 
كان مأتماً عظيماً حقيقياً، 
وحزيناً خالاتي الصغيرات، 
ممزقات الوجوه، 
يخبزن لساعات، 
ويضحكن بأصواتٍ ناعمةٍ حول التنور. 
 
( حول التنور. القصيدة الثانية من الكتاب.
رعد مشتت بقصيدته التي تشبه اليوم ودّع الغنائية والطرب، وطوفان العواطف، وأتجه الى تعميق مشهد الحياة وصورها، بلا بلاغة رنــّانة، وزخرف مزيف، بل بهدوء ساحر يلظم لحظات ذاكرته في شريط سينمائي هو شريط 
حياته. 
يواجهنا الشعر في هذا الكتاب وكأنه نثر مبعثر، الشاعر فيه يسرد ويقص ويروي، مصورّا ومخرجاً لنا أشياء يلتقطها من حياة أبيه وأمه وخالاته وشقيقاته بيوميات أليفة، وأحداث متناثرة  تشعر بان لا قيمة لها وانت تنظر فيها من على السطح. 
أصابتنا حيرةٌ شديدة، كنـّا نجتمع لساعاتٍ، أمام بابها الكبير، نحاولُ أن نـُحللَ الكتابةَ، في مخطوطة بيضاء على لوحٍ أسود،  غضبتْ يوماً وخرجتْ علينا، حينها عرفنا ان طبعات اصابعها على هاماتنا جميعاً. (قصيدة القابلة المأذونة لطفية حسين).
 في هذا، يحاول الشاعر رعت مشتت أن يعيد النظر في موقف الإنسان من كائناته، ومعارفه، يعيد النظر في مواقفه كذات شاعرة من الأشياء الزائلة والمتحولة ويراقب مصيره من خلاها، اشياء عادية موجودة حولنا بكثرة، يخرجها لنا بقيمة جديدة، ويجعلنا نعترف بأهميتها نحن الذين كنــّا نمرّ بالقرب منها بلا اكتراث.  
هكذا يتحول هذا العالم المألوف، الصامت شعر تكاد فيه الأشياء والأشخاص ان تكلمنا وتصغي لنا، تجلس وتسير معنا حيث يخرجها الشعر من طيــّات الذاكرة النسيان لتصير 
حلماً. 
رعد مشتت شاعر يجمع في خطابه الشعري المطلق الكوني، ونسبية الاشياء المادية، اشياء الانسان الحميمية، تلك الاشياء المتروكة واليومية التي تؤسس عالم الناس في النهار والليل.
ليقدّم لنا قصيدة اللحظة المصوّرة بفنية عالية، اللحظة المتصلة بماضيها ومنفصلة عنه في الوقت نفسه. اليوم – الزمن ، والكاميرا – الكلمات. 
اسلوبان او طريقان يندمجان ويختلطان  لنحصل في النهاية على اسلوب جمالي ثالث، حيث البساطة الظاهرة والتألق الفائق يتعايشان بغموض وتعقيد أقرب الى شكل الكابوس، كابوس الحرب والفجائع:
"نسيتْ جدتي العائدة من الحج، شاحبة وبيضاء، هدية زوج ابنتها الذي أمضى أيام اجازته السنوية، عند مشارف المدينةِ بانتظار القوافل العائدة من بيت الله.
بكت خالتي بحرقة، دقت يديها على صدرها وأقسمتْ لن أزورَ قبرها ما حييت. قصيدة غضب من الكتاب 
نفسه."
لم يسقط هذا الشعر بفخ تقليد النسخة الحقيقية لليوم الواقعي، ولا سطوح الشعر السياسي الايديولوجي، ولاجدران الشعارات، بل تجوهر حسه الجمالي كمخرج لشريط سينمائي، بلقطات قصيرة هادئة وبارقة، ومتكاملة تنفذ القصيدة كلحظة من سيناريو يكتظ بالأحياء والموتى، بالرجال والنساء، الأب الأم والخالات والاخوان والاخوات، بالأصدقاء والصديقات، بسلمان والامبريالية، التاكسيات وساحة التحرير، الابقار والبايسكلات، التلفونات والصيدلانية، الثورة الزراعية والفرقة السيفونية، العرفاء والجنود، الكرد وصوبات علاء الدين، ملائكة وشياطين،  شهرزاد والانضباط العسكري، سجل الاعدام وخريطة العالم، الأطفال والحرب، نحن والايام الايام.