استطاع نجيب محفوظ في روايتين من رواياته العظيمة ان يقدم شخصيتين نسائيتين في غاية التنافر رغم الشبه الكبير في سيرتهما ، ففي رواية ( اللص والكلاب ) قدم شخصية ( نور ) بنت الليل بطريقة غاية في الادهاش والمقدرة حين احبت ( سعيد مهران ) المجرم الهارب من وجه العدالة ، ولكن اية عدالة !! ( نور ) هنا هي الوجه الناصع النقي ويمكن ان نقول انها تحمل قلب ملاك في جسد مبتذل ، بينما في رواية ( الطريق ) قدم نجيب محفوظ شخصية ( كريمة ) ذات الماضي السيئ التي ما ان رأها ( صابر ) حين جاء الى الاسكندرية حتى تذكرها فوراً لكنها انكرت كل شيء ( كريمة ) هنا شخصية مليئة بالغل والتوحش والانفلات ثم وصولاً الى الجريمة ، حين لم تشبعها رغبات الجسد المحترق قررت ان تقتل زوجها الرجل العجوز المريض بالاتفاق مع عشيقها الذي خسر كل شيء ، امه وثروته ومستقبله وهو يبحث عن شبح أب غير موجود ، الاب هنا رمز واضح وقد اتفق معظم النقاد على ذلك حتى ان بعضهم اعطاه رمز الأله الغائب عن مجريات الامور وتشابكات الحياة ، ما يهمنا هنا هو هذه العينة من الشخصيات المقتربات
والبعيدات عن بعض فالاثنان ( نور ) و ( كريمة ) تسيران على خط واحد ( كريمة ) في الماضي و ( نور ) في الحاضر ثم ان ( كريمة ) تستعيد كل ماضيها وثورتها الجنسية المتفجرة في لقاءاتها الليلية مع عشيقها ( صابر ) بينما ( نور ) والشارع والليل والضياع والاعتداءات من قبل زبائنها الشباب وايام الحجز في اقسام البوليس والمهانة اليومية ، لكنها تجد ذاتها وانسانيتها متمثلة في
علاقاتها المتعالية الصافية مع ( سعيد مهران ) سعيد الانسان المهتضم المسلوب الذي وقع حيف وظلم كبير عليه حين خانته زوجته وخانه صاحبه
واخذوا ابنته منه وسلبوا بالتالي حريته وجنى عليه المثقف الذي يدعى الثورة على الانظمة الفاسدة وهو ينادي بصوت الفقراء واذا به يطعن ( سعيد ) في مقتل حين يوهمه بكل تلك الشعارات ويصدقها (سعيد) لكنه يكتشفه متأخراً لذلك يقرر ان
يثأر منه تماماً كقراره بالثأر من زوجته وصاحبه ، لانهما يشكلان وجهين لعملة واحدة ، بينما ( نور ) هي ايضاً الوجه الاخر لـ ( سعيد) الذي ثارت ثائرة الناس والقانون والصحافة عليه وكأنه المجرم الوحيد في البلد كما كان يحدث لـ (نور ) المنتهكة الضعيفة لكنها قوية بوجود حبيبها حين تراه تتحول الى امرأة سوية عاشقة
كزوجة تلبي حاجات الزوج والبيت فتعود الى انسانيتها في لقائها مع حبيبها بينما ( كريمة ) ترتد وتتحول الى وحش جنسي كاسر حين تلتقي بعشيقها الطائش ( صابر ) لقد استطاع نجيب محفوظ بعبقرية فذة ان يقدم أنموذجين بالغي الغرابة والألفة حين قدم هاتين الشخصيتين انما ليختصر فيهما ومن خلالهما المجتمع المصري والعربي عموماً وان يظهر نزعات النفس البشرية بكل
جمالها وقبحها.