ماضويةٌ وصراعٌ على الثبات والتحرر

ثقافة 2019/09/01
...

استطلاع/ صلاح حسن السيلاوي 
 
 
هل تمثل الأبوية في المشهد الثقافي العراقي عائقا كبيراً أمام حركات التجديد، أو قيداً على فكرة التحرر من ماضوية  المفاهيم التي يتصارع كثيرٌ على الثبات أو التحرر منها، ماذا عن الأبوية التي أنتجتها سعة وأهمية المنجز الإبداعي لاسماء باتت تشكل علامات مهمة في الثقافة العراقية  ومنها السياب و نازك الملائكة والجواهري الذين يوصفون آباءً شعريين، فيما يعد غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي ومحمد خضير آباءً سرديين. 
هذه الأبوية التي قد تنطلق من رمزية وتأثير هؤلاء المبدعين وأمثالهم أيمكن أن تكون مبررة؟
وماذا عن أثرها في الأبناء في المشهد؟  هنالك أيضا ما اسميه(الأبوية المؤسساتية)حيث تصنع إدارات بعض المؤسسات أسماءً معينة ثم تصبح لها سلطة الأب على صناع
الإبداع؟ 
هل هنالك من ينفلت من التأثر بهذه الأبوة ويحافظ بذات الوقت على 
انتمائه لخصوصيته الثقافية. 
 
معيار قهري 
الناقد علي حسن الفواز يرى أن رمزية التأسيس الثقافي في أية ثقافة كانت هي مسألة اخلاقية أكثر مما هي ثقافية، لكن قوة هذه الرمزية ومركزيتها ترتبط بمدى تأثيرها في تداولية قيم التجديد، وعدم حساسيتها إزاء بروز تجارب مغايرة،  لها اسئلتها الجديدة إزاء ماهو مختلف وحديث. 
وأشار الفواز إلى أن الابوية الثقافية  بقدر ما تمثله من مركزية ضاغطة، فإنها تعكس- في الجوهر- طبيعة التفكير الثقافي المهيمن، وربما تعكس علاقة هذا التفكير بوهم التأسيس وسلطته، واحيانا بمهيمنات رمزية أخرى يشتبك فيها السياسي والايديولوجي والمقدس، وهذا مايُعطي لتلك الأبوية نوعا من السيمياء المتعالية، على مستوى الاحتفاء بها، وبالأثرة التي تمتلكها، أو على مستوى النظر الى الاجيال والتجارب والاسماء الجديدة، والتي تشكل وعيها في ظل ظروف مختلفة، وفي سياقات 
مختلفة.
وأضاف قائلا:  للأسف تحولت الأبوية الثقافية الى سلطة رعب، والى معيار قهري في التعاطي مع(ثقافة الأولاد)بقطع النظر إنْ كبروا أم لم يكبروا، ومع هوية وسمة وتوصيف الجديد في الثقافة، والقبول به بعيدا عن أبوية تلك الاسماء التي تشكلت تجاربها في ظروف خاصة لها وضعها التاريخي، ولها نمطيتها في الكتابة وفي النشر وفي
 البروباغندا. 
هذا المنظور لايعني اقتراح لعبة محو متبادل مابين(الاباء والاولاد)بقدر ما يفترض وعيا بأن الجديد هو الأفق المفتوح، وأن الماضي وما تأسس به هو جزء من زمنه، ومن حساسيته، ومن اسئلته، وهذا مايمكن أن تقوم به مؤسسات النقد والنشر والاعلام، فضلا عن المؤسسات الأخرى، بما فيها مؤسسة الايديولوجيا، والتي مازالت تفرض معاييرها الضاغطة حول تداولية مفاهيم الجمال والكتابة والحرية 
والمستقبل. 
 
محض سراب 
الأديب علي لفتة سعيد تحدث عن الابوية  والريادة والمعلم الأول الذي يسبق زمن الأديب اللاحق مشيرا إلى ان ذلك يتبلور في منطقة التأثير على اعتبار أن الأدب ليس سليقة منطلقة في روح الموهبة بل هو موهبة تقرأ وتطلّع على كل ما هو قائم في لحظة الاكتشاف ليكون هناك أثر وتأثير يتحوّل بمرور الزمن الى أبوةٍ 
أدبية.
وأضاف سعيد موضحا: وما عدا ذلك فإن الابوة ليست مستمرة، فحركة الأجيال متعاقبة فمن كان أبًا لي كان إبنًا لمن سبقه، وسأكون أبًا لمن يأتي بعدي، وكل شيءٍ مصان بالمنطقة التأثيرية لتشكيل الذات الإبداعية المتأثّرة بمن 
سبق. 
أما الأبوة المؤسساتية فهي محض سرابٍ يتم صناعتها على أنها الناهضة بما ينتجه الأديب وتلك علاقة غير متوازنةٍ وغير قابلةٍ للبقاء أصلا، لأنها محكومةٌ بسلوك المؤسسة ذاتها التي تريد التعكّز على آباء الأدب الذين سيتحولّون ونتحوّل الى رمز له أهمية كبيرة في التربية المقصودة  والمؤسسات هي استغلال الموقع من أجل صناعة مجدٍ وهمي لا فائدة منه إلّا بقدر تعلّق الأمر بفائدة الأدب نفسه، إن كان في موقع الخدمة وتقديم المساعدة والدفاع عن الأدب والأديب وهو ما يجعل بالضرورة في نهاية الأمر أن يكون لكلّ أديبٍ سبيله المنفصل عن أية أبّوةٍ أخرى، لأنه لا يريد أن يكون نسخةً لما سبقه، مثلما هو غير قابلٍ أن سكون نسخةً لمن سيأتي بعده ولو صار أباً 
رمزيا.
 
مشهد بلا أبوية
الشاعر هادي الحسيني قال: ليست ثمة أبوية داخل المشهد الثقافي بمعنى الأبوة المتعارف عليها، بل ثمة تأثيرات في تجربة الشعراء المبدعين الذي أسسوا لقصيدة جديدة بالشكل والمضمون سواء كانت في الشعر الكلاسيكي الذي ختمه الجواهري بعد رحيله او الشعر الحر وقصيدة النثر. وكل شاعر حين يبدأ كتابته للشعر بالتأكيد سوف يتأثر بشاعر سبقه في التجربة والعمر وسنكتشف التأثير واضحا في قصائد كل الشعراء الجدد، ويشعرك بالتقليد، لكنه لم يكن تقليدا انما من خلال القراءات تبقى روح الشاعر ونفسه داخل النص الذي يكتبه، شاعر كبير مثل محمود درويش لم يتمكن من الإفلات من هيمنة قصيدة البياتي إلا بعد ان اصدر اكثر من ثلاثة 
دواوين. 
وهكذا جميع الشعراء تأثروا بمن سبقوهم. اما بالنسبة للسرد وفرسانه في القصة والرواية لا يوجد آباء لها، قد يأتي شاب صغير السن يكتب رواية يتفوق فيها على ماركيز ذاته فالحياة اختلفت ومشاكلها اصبحت اسهل بكثير مما عاشته الأجيال السابقة التي يطلق عليها البعض بالأبوية او الآباء. 
وخلال العقدين الماضيين بدأت تنحسر تسمية الشاعر الكبير في زمننا، فأصبح الشاعر كبير بنصه وإبداعه سواء كان معروفا ام لا. 
فالكثير من الذين كنا نسمع باسمائهم الكبيرة سواء في الشعر او القصة والرواية اليوم وامام ثورة الانترنيت العظيمة نقرأ لهم اشياء بسيطة عبر مواقع التواصل الاجتماعية التي جعلت في متناول الجميع كل الصحف والمجلات الأدبية وكم انصدمنا باسماء كانت المؤسسات السياسية قد نفخت بها ايام الحروب والدمار ومازالت تلك المؤسسات الحزبية تسير بنفس النهج لكنها حالة وقتية لا تدم وسرعان ما تتهاوى 
وتسقط. 
 
دون الغرق في النهر 
الشاعر حمدان المالكي قال: لا أرى أن عصر الأبوة الثقافية انتهى لكني أراه في مرحلة النزع الأخير واسباب ذلك معروفة منها وجود وسائل التواصل الأجتماعي وتغير تفكير الجيل الحالي عن فكرة الأبوة, الجيل الحالي جيل متمرد ومتعطش لكسر الأصنام التي يرى إنها تقف في طريقه ومن جهة أخرى فأن بعض الأسماء الراسخة في المشهد الثقافي تتعامل بفوقية ونرجسية وهذا مما يعزز فكرة تجاوز هذه الأبوة، نعم هو يتأثر ويعجب فيها لكن بطريقة من يشرب من النهر دون الغرق فيه، أما بالنسبة لأبوة المؤسسات الثقافية فأرى أنها أبوة مريضة ومحتكرة للفعل الثقافي, اليوم الذين يديرون دفة هذه المؤسسات الثقافية لايقدمون شيئا إلى المثقف تحكمهم العلاقات الشخصية والتخادم الثقافي إن جاز التعبير وهو أدعوك إلى جلسة وتدعوني أنت إلى مهرجان، الكثير من الأدباء وممن يشتغلون في الشأن الثقافي للأسف انخرطوا في هذه اللعبة السخيفة,ووصل الأمر ببعضهم  التملق الفاضح على صفحات التواصل الأجتماعي من أجل مهرجان أو طبع كتاب أو أمسية وهو في النهاية خراب محض لأنه يقدم الأدنى على الأعلى من الناحية الإبداعية، قلة قليلة من الأدباء تخطوا اسوار أبوة المؤسسات الثقافية ونجحوا في بناء اسمائهم بعيدا عن ضجيج المؤسسات, صحيح أنهم قلة لكنهم يصححون مسار الثقافة برفضهم لكل أشكال التبعية والرقص في حفلة 
خاسرة.