ثلاثون عاماً بعد سقوط بولندا الشيوعيَّة

بانوراما 2019/09/02
...

براين بورتر سوزيس
ترجمة: مي اسماعيل 
بعد فترة قصيرة من احتفال العالم بالذكرى الثلاثين لاحتجاجات ساحة "تيان آن مين" وسط العاصمة الصينية بكين، تمر ذكرى لها أهمية تاريخية كبيرة في بولندا (والكتلة الشيوعية عموما) تتمثل بإقامة اول انتخابات حرة سنة 1989. وهي الانتخابات التي وعد بها السياسيون منذ مؤتمر يالطة (1945) ولم تُجرَ. لم يفز أي شيوعي بأي مقعد في تلك الانتخابات؛ وعرف ميخائيل غورباتشوف (الرئيس السوفيتي حينها) تبعات ذلك الرفض الهائل، فقال: "تهدد الفوضى في بولندا بزرع التفكك في المعسكر الشيوعي بكامله". وبالفعل؛ أُشعل الفتيل هنا ليستمر التفكك وصولا الى أساس جدار برلين.
كانت انتخابات الرابع من حزيران سنة 1989 (قبل ثلاثة عقود) أول انتخابات حرة ومتعددة الأحزاب في بولندا منذ الحرب العالمية الثانية. وكان ذلك بداية سلسلة من الأحداث بلغت ذروتها بانهيار جميع الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية. وبعد سنتين تلاشى الاتحاد السوفيتي ذاته، وانتهت الحرب الباردة. حفلت سنة 1989 بالتأكيد بفيض من الانتصارات الليبرالية؛ ولكن لا يمكن إنكار أنها كانت سنة من الفوز الحقيقي لقوى الديمقراطية والتعددية والانفتاح.. وكل ذلك بدأ من بولندا.  
 
سلسلة أحداث
كان من مناسبات شهر حزيران التي لا يجب إغفال الاحتفال بها: زيارة البابا جون بول الثاني صيف سنة 1979 الى بولندا، وكان اسمه السابق "كارول فويتيلا- Karol Wojtyla" ؛ وهو أول بابا بولندي، سلافي، غير إيطالي يتسلم الموقع منذ أربعة قرون ونصف. حضر البابا حينها واحدة من أكبر التجمعات الدينية على مستوى دول أوروبا الشرقية؛ إذ حيته جموع حاشدة متحدية السلطات. اعتبر بعض البولنديين زيارة البابا (البولندي) مشهدا سرياليا له بريق لا يوصف؛ كأنه يهز قواعد الدولة الماركسية- اللينينية. ووصف أحدهم الموقف لمراسل صحيفة أجنبية: أن تمجيدنا لسلطة السماء يعني أن نهز قبضاتنا في وجه الأيديولوجيين القساة، الذين رفضوا
 الدين! 
حرصت السلطات البولندية على تحريض المواطنين لعدم استقبال موكب البابا أو حضور قداسه؛ لكن التجمع كان حاشدا. ومن هنا، باتت هذه الزيارة (والتجمعات الدينية التي رافقتها) نواة لتأسيس حركة "التضامن" العمالية خلال عام من الزمن. وعن تلك الزيارة قال "فاليسا": "حينما جاء البابا الى بولندا، ارتفع عدد أتباعي العشرين فجأة الى عشرة ملايين". وكان الأمر كذلك بالفعل (من حيث الحساب العددي على الأقل). حين خاطب البابا جموع الحاضرين مطالبا إياهم (على مسمع من السلطات ورجال الأمن الذين أحاطوا بساحة "النصر" موقع التجمع) بالشجاعة ومواجهة
 الخوف.  
كل تلك المناسبات خلف جدران دول الستار الحديدي (توابع الاتحاد السوفيتي السابق) قادت الى الحدث الأهم ضمن هذه السلسلة، الذي ستحل ذكراه بحلول الخريف المقبل: الذكرى الثلاثين لسقوط جدار برلين وانهيار الشيوعية في أوروبا الشرقية. ورغم أن سقوط الجدار نال القسط الأكبر من التركيز من حيث التحليل السياسي؛ فلا بد من أن نتذكر أن انتخابات بولندا (التي فاز خلالها مرشحو التضامن الثائرون ضد السلطة الشيوعية) عجلت بذلك السقوط؛ كما عجلت زيارة البابا قبلها بعقد من الزمن بتشكيل حركة 
"تضامن". 
 
هل يتكرر التاريخ؟
يبدو (للأسف) أن التاريخ يتكرر كل حين؛ فبعد ثلاثة عقود من تلك الأحداث المثيرة بتنا نشهد إعادة تشكّل الأنظمة الديكتاتورية في بولندا وهنغاريا وروسيا، بينما ترتفع قوى مشابهة مناهضة لليبرالية وسط أرجاء المنطقة. قد يكون الخطاب مختلفا بعض الشيء هذه الأيام، والشعارات تأتي من اليمين القومي بدلا من اليسار الشيوعي؛ لكن أساليب الاستبداد متشابهة بشكل مخيف. تقبع المحاكم والإعلام والمؤسسات الثقافية وأنظمة التعليم بالنسبة لكل من بولندا وهنغاريا وروسيا تحت سيطرة الأحزاب الحاكمة هناك. وهذه الأخيرة تستخدم سطوتها لإعادة تشكيل المجتمع وقمع القيم الليبرالية للتسامح والتعددية والتنوع واحترام المعايير
 القانونية. 
حينما نتذكر أن كره الأجانب والقوميين اصبح متصاعدا بإطراد لدى الشيوعيين أنفسهم خلال السبعينيات والثمانينيات؛ حينها تتلاشى حتى الخلافات البلاغية. وقد نرى (في استعادتنا لأحداث الماضي) أن تغيرات سنة 1989 لم تكن دراماتيكية الى الحد الذي بدت عليه زمن وقوعها. فهل يجدر حتى الاحتفال بذكرى أحداث تلك السنوات؟ 
نعم يجدر ذلك؛ ولكن مع الانتباه الى وعود لم تتحقق في أحداث وقعت قبل ثلاثة عقود. ويجدر (حين الاحتفال) العودة الى الآمال والأهداف الفعلية لأولئك الذين قادوا الى سقوط الشيوعية، وتنحية أيديولوجية التقشف المتطرفة التي فرضت على أوروبا الشرقية بعد ذلك.. جانباً وإلى الأبد. 
 
مطالب سياسية واقتصادية
عندما بدأ ناشطو حركة العمال البولندية "تضامن- Solidarity" التفاوض مع السلطة الشيوعية مطلع العام 1989 كانت لهم مطالب سياسية واقتصادية، فقد فاز آنذاك مرشحو حركة "تضامن" بتسعة وتسعين مقعدا من المئة المطلوبة للاقتراع، وفاز متنافس مستقل بالمقعد الأخير؛ مما مهّد الطريق لفوز زعيم الحركة "ليخ فاليسا" بمنصب الرئيس بعد عام من الزمن. 
تحققت الأهداف السياسية (الى حد فاق أكثر أحلامهم جرأة)؛ إذ سيصير أحد قادتهم رئيسا للوزراء بحلول نهاية الصيف، وخلال بضع سنوات سيكون لبولندا قضاء مستقل ومحيط إعلامي واسع الانفتاح وديمقراطية متعددة الأحزاب. ولكن أهداف "تضامن" الاقتصادية نُبذَت فورا وبعنف. يبدو أن دراسة تلك الأهداف، اليوم، تشبه النظر الى عالم مختلف، فمن المستساغ المطالبة بأن تكون الأجور مبرمجة وفق معدلات التضخم، وأن تضمن الدولة توظيفا كاملا، وتلعب النقابات المستقلة دورا كبيرا لإدارة الشركات. 
ورغم أن ذلك الشعار لم يستخدم حينها؛ فقد حملت المرحلة "وصفة" للاشتراكية الديمقراطية، وليس للرأسمالية الليبرالية الجديدة.. وهذا هو الوعد الذي نبع من محادثات الطاولة المستديرة، ولم يتحقق
 قط.  
الاقتصاد بعد الشيوعية
 بينما تبنت الحكومة الجديدة (ما بعد الشيوعية) سلسلة من اجراءات التقشف الراديكالية التي أُطلق عليها اسم: "العلاج بالصدمة"؛ هوت بولندا الى واحدة من أعمق حقب الركود المسجلة. ولو ربطنا (واقعيا) أزمة حقبة الشيوعية المنصرمة مع كساد ما بعد الشيوعية، وأجرينا مقارنة لها مع الكساد الكبير الذي شهدته سنوات الثلاثينيات؛ فسنواجه صدمة كبيرة: تمثل بانحدار شديد لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بالنسبة لبولندا بعد سنوات 1928 و1978. وساهم الإنحدار الثاني بكساد أواخر القرن العشرين (الذي حدث بعد تغيرات سنة 1989 مباشرة) بتفسير شعور الكثير من البولنديين بما يسمى "ندم المشترين العميق" تجاه نبذ النظام
 الشيوعي. 
أجرت مؤسسة "CBOS- مركز أبحاث الرأي العام" (Centre for Public Opinion Research) في بولندا استطلاعات عن شعور البولنديين تجاه تحولات ما بعد الشيوعية؛ وهي آراء كانت (حتى وقت قريب) منقسمة تخضع للكثير من التقلبات. 
نوعا ما، يأتي سبب تأخر إجماع البولنديين على أن الاطاحة بجمهورية بولندا الشعبية الشيوعية كان أمرا يستحق الجهد المبذول انطلاقا من حقيقة أن النجاح الاقتصادي العام أصبح امرا لا يمكن إنكاره. فأصبح البولنديون عموما أكثر ثراء مما كانوا عليه سابقا.. بكثير! لكن ملاحظة فترات انخفاض الدخل (من خلال مخططات حساب المدخولات العامة للبولنديين) لسنوات
 1978. 
والانخفاض الأكثر ما بعد سنة 1989 تجعلنا نلتمس العذر لمعاصري أحداث تلك السنوات؛ الذين تساءلوا كثيرا عن سبب احتفال البعض بسقوط الشيوعية! كما أن تعافي معدلات الاجور (في نهاية المطاف) وارتفاعها الى مستويات جديدة جاء على حساب زيادة ملحوظة في ساعات العمل والضغوط الوظيفية وتوتر العلاقات الأسرية والروابط الاجتماعية والتغيير الثقافي
 الهائل. 
لجميع تلك الأسباب، يبقى البولنديون الذين سمح لهم السن بمعاصرة "جمهورية بولندا الشعبية" متشككين حتى اليوم تجاه تلك التحولات. أما الاجماع العام على قبول تحولات سنة 1989 فقد جاء أساسا من قبل من بلغوا مرحلة الشباب بعد التسعينيات؛ وجاءت "ذكرياتهم" عن الشيوعية من الكتب المدرسية والروايات والأفلام ومسلسلات التلفاز؛ التي تصور النظام القديم باستمرار بألوان داكنة ذات صيغة موحدة. 
 
الليبراليون الجدد ضد القوميين
هيمن على سياسة بولندا القرن الحادي والعشرين (وأرجاء اوروبا الشرقية أيضا) صراع بين الليبراليين الجدد (المدافعين عن النظام الاقتصادي والسياسي الذي قام بعد سنة 1989) والقوميين (المؤكدين على الجوانب القاتمة من النظام الجديد؛ لكنهم يلقون اللوم فيها على مؤامرات كبيرة يقوم بها أجانب وشيوعيون سابقون مستترون). 
بات القوميون الآن على رأس السلطة، وهم يسعون لتفكيك كل مكاسب الليبراليين؛ السياسية والاقتصادية منها سواء. يمكن القول ان نظام "ياروسلاف كازينسكي-Jaroslaw Kaczynski " زعيم حزب القانون والعدالة البولندي هو نظام استبدادي، ولا يمكن إيجاد تناظر بينه وبين خصومه الليبراليين. ومع ذلك، فأن التآكل المأساوي اليوم للمعايير الدستورية كان نتيجة (وإن كانت جزئية) لفشل عقود التسعينيات ومطلع القرن الحالي. حينها غاب عن المشهد السياسي برنامج لتنفيذ جميع جوانب اتفاقات المائدة المستديرة؛ برنامج يجمع حريات الليبراليين الديمقراطية (في عالم السياسة والثقافة) مع الاشتراكية الديمقراطية ضمن عالم الاقتصاد. 
دعونا نتذكر (حينما نحتفل بذكرى سنة 1989) أن ذلك المسار لم يتم سلوكه، وأن الوقت قد فات على استعادة الحدث؛ إذ تم استبدال الذاكرة الحية للعصر الشيوعي بسياسة الذاكرة، وهذه جرى تسميمها تماما من قبل التشويهات الحزبية المتنافسة لكل من الليبرالية المعادية للشيوعية والقومية المعادية
 الشيوعية. 
لا يرغب أحد باستعادة الشيوعية؛ وهناك (رغم كل شيء) ما يستحق الاحتفال بمناسبات هذا العام. أما تنهدات الأسف التي تصاحبها فتتتعلق ببرنامج الاصلاح المتلاشي. 
 
*موقع {الغلوب بوست»