الجلود .. ثروة وطنية تنتظر من يستثمرها

ريبورتاج 2019/09/16
...

بغداد/ فجر محمد
 
كانت ملامح الاستياء واضحة على وجه الخمسيني الذي رفض الكشف عن اسمه  وهو يتحدث بالم واسى عن مهنة دباغة الجلود التي يمتهنها هو والمئات من اقرانه، فقد وقف مستنكراً ومندداً بما حل بمصانع ومعامل الجلود التي كانت مزدهرة في يوم ما، ويقول:
“ في الوقت الحاضر تكاد تكون مهنة الدباغة شبه مندثرة، في حين كانت في سبعينيات القرن الماضي رائجة جداً حتى وصل الامر الى دخول العراق في التصنيفات العربية والعالمية في جودة هذه الصناعة، بل ان الاسواق الخارجية كانت تتهافت على هذه البضائع.
استعرضت الشركة العامة للصناعات الجلدية احدى شركات وزارة الصناعة والمعادن تاريخها الطويل عبر موقعها الالكتروني، اذ اوضحت انها  لطالما قدمت انتاجاً عالي الجودة وسدت النقص في الأسواق المحلية من المنتوجات الجلدية منذ تأسيسها في العام 1970 بعد دمج شركة باتا العالمية مع معمل الأحذية الشعبية في الكوفة تحت اسم شركة باتا العامة التي تم دمجها عام 1976 مع شركة الدباغة الوطنية لتعرف لاحقاً بالمنشأة العامة للصناعات الجلدية حتى صدور قانون الشركات عام 1989 لتتحول الى الشركة العامة للصناعات الجلدية ،وانه بالرغم من تضرر الشركة نتيجة الأوضاع الأمنية التي عصفت بالبلاد في أحداث عام 2003 فقد تمت معاودة العمل والإنتاج وبخطى ثابتة بدعم حكومي وسعي الوزارة في النهوض بشركاتها واحياء الصناعة الوطنية، ووضع الخطط المناسبة لتطوير المنتج كماً ونوعاً وبموديلات حديثة تتناسب مع حاجة وذوق المستهلك وبأسعار تنافسية عن طريق إضافة خطوط إنتاجية جديدة وتأهيل المكائن القديمة وشراء قوالب حديثة لإنتاج موديلات حديثة تواكب متطلبات السوق المحلية ورغبة وذوق المستهلك العراقي.
 
دراسات طبيًّة
اظهرت احدى الدراسات الطبية التي اجريت في وقت سابق من قبل مختصين واطباء على عينة شملت اشخاصاً يعملون في الدباغة  باحد المصانع العراقية ان هناك عدداً كبيراً منهم مصابون بالتسمم، نتيجة عملهم في هذا المجال بدون مراعاة قواعد السلامة المهنية، علماً انه من غير المعروف ما اذا كانوا قد تعرضوا للمواد الكيميائية أو غيرها من المواد السامة  وهذا اثر في جيناتهم.
بينما بينت دراسات اخرى  ان عملية الدباغة تتضمن مركبات كيميائية وعضوية يمكن أن يكون لها تأثير ضار في البيئة، اذ يتم استخدام عوامل مثل الكروم والعفص النباتي والألدهيدات في عملية الدباغة فضلاً عن  مواد كيميائية أخرى معينة.
واشارت الدراسة الى ان المواد المستخدمة في إنتاج الجلود المدبوغة تزيد من مستويات الطلب على الاوكسجين الكيميائي والمواد الصلبة الذائبة في الماء عندما لا يتم التخلص منها بطريقة مسؤولة، و تستهلك هذه العمليات أيضاً كميات كبيرة من المياه وتنتج كميات اكبر من الملوثات، لذلك لابد من الاهتمام بالشروط البيئية والمواصفات القياسية لضمان نجاح هذه الصناعة المهمة.
دباغة الجلود ليست مهنة محلية حكراً، اذ تتناول التقارير الاعلامية هذا الموضوع وتسلط الضوء عليه وفي مدن معينة منها الهند، اذ سجلت مدينة كانبور مثالاً على الكيفية التي يمكن أن تؤثر بها المواد الكيميائية المدبغة والمياه العادمة سلباً في الصحة والنظم الإيكولوجية، ففي عام 2013  أصبحت المدينة أكبر مصدر للجلود، واكثر من 80 بالمئة من مياه الصرف الصحي تتم معالجتها وإلقاؤها مباشرة في مصدر المياه الرئيس في نهر الغانج بكانبور ، اذ تغمر الأراضي الزراعية بالمياه ذات الصبغة الزرقاء وتسممها بالكروم والرصاص والزرنيخ. 
مسالخ الحيوانات
 “بدأنا نلاحظ ان هناك رعاة اغنام يستغلون الساحات وما يعرف بالجزرات الوسطية ويرعون فيها اغنامهم ثم يقومون بذبحها ورمي الجلود بشكل عشوائي فيها”، هذا ما تحدث عنه الستيني رافد كنان وتابع القول:
“في ما مضى كانت هذه الظاهرة غير الحضارية تكثر في المناطق الشعبية بصورة خاصة اما اليوم فهي موجودة في المحلات والازقة ذات الطابع التجاري التي تشهد ازدحاماً كبيراً واقبالاً من المواطنين، اذ لم يعد مستغرباً رصد الاغنام وهي تتجول في احد الشوارع بمطلق حريتها، وما يزيد الامر سوءاً هو ذبحها وسلخ جلودها ورميها لتتكاثر عليها الحشرات والذباب دون رقابة، في حين سابقاً كانت هناك مناطق مخصصة لرعي الاغنام وبيعها تعرف بـ(الجوبات) ومن ثم تتم الاستفادة من جلود الحيوانات وتنقل الى اماكن خاصة ليجري تنظيفها واستعمالها في صناعة الحقائب والاحذية وغيرها من المنتجات التي تشكل الجلود العنصر الاساس فيها.
مجلس محافظة بغداد أوصى في اجتماعاته بمنع ظاهرة الجزر العشوائي التي تتم في الازقة والاحياء السكنية ودعا الى محاسبة المقصرين، لكون هذه الظاهرة تسبب التلوث في كثير من الاحيان، ومن جانبها شددت امانة بغداد على ضرورة الابتعاد عن هذه الممارسات المضرة الخالية من التنظيم ووعدت بمحاسبة المقصرين والمخالفين. 
ويجمع خبراء البيئة على ان هناك الكثير من التصرفات غير المسؤولة التي اخذ يقوم بها الانسان على سطح الكرة الارضية واضرت بها بشكل كبير، وزادت من حدة التلوث ومنها سلخ الحيوانات ورمي جلودها ما يسبب انتشار الجراثيم في الجو ويؤثر في سكان المدن التي تجري فيها عمليات الذبح، اذ دعا الخبير بالشؤون البيئية احمد صالح الى ضرورة الاهتمام بالبيئة كي تستعيد عافيتها من جديد، اذ ان الملوثات اثرت فيها بشكل كبير، وانعكست سلباً على الاجواء المحيطة بالانسان.
 
قاعدة صناعيًّة
الباحث بالشؤون الاقتصادية والاكاديمي الدكتور فالح الزبيدي اشار الى ان استغلال الجلود من الممكن ان يكون احد المنافذ الاقتصادية ومورداً مهماً وحيوياً، ففي السابق ولكون جلود الحيوانات تعد مصدراً من اهم مصادر مهنة الدباغة لذا كان هناك مهربون يأخذونها ويصنعون منها افضل انواع الحقائب والاحذية والسترات الجلدية، اذ كانت تهرب الى دول الجوار، اما اليوم فتعاني هذه المهنة من تراجع واضح والدليل على ذلك غياب استثمار جلود الحيوانات بعد ان تتم عملية سلخها التي اصبحت تنفذ بطريقة بدائية ومن ثم رميها في النفايات.
من الجدير بالذكر ان الدول التي تعتمد على مصدر وحيد في الاقتصاد خصوصاً النفط  تدفع اقتصادها الى الانتكاسة والانهيار، لانه يعد من الموارد القابلة للنفاد في اي وقت لكونه يرتبط بحركة السوق العالمية، والدول التي تعتمد على النفط في اقتصادها مثل دول الخليج تسمى اقتصاديات 
الفقاعة.
لافتاً الى انه  كي تنجح أي صناعة لابد اولاً من توفر قاعدة صناعية رصينة وايلاء  المصانع والمعامل الاهمية الاكبر خصوصاً المختصة بالبتروكيمياويات، ومن المهم عدم تصدير مواد خام بل ادخالها في المنتجات ومن ثم تصديرها للخارج، علماً ان البلاد تتمتع بموارد كثيرة مهمة منها الفوسفات وغيرها من الثروات المعدنية التي بمقدورها ان تكون داعماً اساسياً للموارد 
الاخرى.
 
مخاطر صحيَّة
طبيب الاسرة والمجتمع الدكتور احمد الرديني شدد على ان الرقابة الصحية على المواشي وطريقة ذبحها ومراقبة اللحوم وفحصها بشكل علمي جيد واحدة من أهم الأمور التي تتبع في الدول المتقدمة لمنع انتقال الأمراض من الحيوانات إلى الإنسان، ولكن في بلدنا لم نصل إلى هذا المستوى بعد، اذ نجد ان الذبح يتم في الطرقات بدون اي فحص أو رقابة بل يتعدى لأكثر من هذا اذ تترك فضلات ما تبقى منها في أكوام الأنقاض التي تتواجد في أحيان كثيرة في أزقة الاحياء السكنية و الشوارع لتكون مصدراً للاكل من قبل القطط والكلاب السائبة، وسبباً لنمو الكثير من أنواع البكتريا والفيروسات على فضلات الجلود واللحوم المتبقية والتي من الممكن أن تنتقل في نهاية الأمر إلى الإنسان، لذلك لابد من التوقف عن هذه الممارسات بوجود رقابة اكبر، فضلاً عن  استثمار هذه الجلود بدل ان تكون مصدراً للتلوث ونمو 
الجراثيم.