اسماعيل ابراهيم عبد
للذروة الأخيرة، أو الذرى المتوسطة في مساحة العرض القصصي أهمية فائقة تتغلّب أحيانا على مسبّبات الجودة الخاصة بالتنظيم والتنغيم والحكي، ذلك أنّها تعبّر عن حراجة اللحظة وانفعالها وما ستحدثه من أثر، لكن موضوعنا هنا يرى أنها لحظة منتمية الى مبررات القص الكلية، مثلها مثل الحدث الخبري في الواقعة القصصية، ومثل أنموذج المقولات ذات الدلائل المبهجة المضللة، وهي (أي الذرى) توجب جملة من علاقات الفعل السردي، اعتماداً على تصورات الادراك العقلي والحدسي والصياغي المُصَنَّع، من ثمّ هي مبرر حقيقي لما يرسمه القصاص لنفسه ولفنّه من تداول وانتشار وتأثير.
في الوقت ذاته، يكون المؤول اللغوي والقارئ النشط، موقوفين على تأمل المأثور القصصي، في سياقاته التاريخية، السابقة واللاحقة لأجل ربط قوى الفهم بمدارات قيم الكفاءة المرعية عصريا للقص.
من ثمّ لا وجود للنوع أو لذراه من دون لغة تعبر وتتفاهم وتوصل الأفكار والمبادئ والأعمال، الى جهات الاستقبال. إذاً موضوعات هذه الشؤون ستُبَلّغ مضامينها عَبْرَ المقولات الفكرية اللغوية للتمثل الاخباري الفني أساسا.
ان كل مضامين القص متجهات فكرية وفنية قد يختلف بعضها عن بعض الى درجة الصعوبة في الفصل بينهما، لكن القصة تكاد تتمثل آلياتها السردية (الفنية) مع آلياتها الفكرية بمركز تموين الذاكرة؛ لأنّها تكثف الاخبار الى أقصى حد ممكن، وقد تكون حركة الفعل الحدثي فيها من الجلاء والوضوح والإداء والتأثير ما يجعلها قولاً مخزوناً يتشتت بالتمويل الخاص بالواقعة لدرجة تشمل أماكن وبشراً وأزماناً مختلفة، مختلة العلاقات، مما يغني في النهاية عن وسائل عديدة للتوصيل والاكتفاء بنمط التنوع الصياغي للخبر (الحادثة) فقط، لكن القص يقتضي على الأقل شخصية “تتميز بالتمرّد والعفوية، الانعزال الفطري، التحدي، المجابهة، الاصطدام، الانفصام” (1).
وجود الشخصية مهم جدا للإخبار حتى لو كانت الشخصية ورقة من رقائق الكتابة نفسها، ويظل الخيار القولي مفتوحاً كدعوة للإغناء والاتصال والتواصل والتفضيل، يظل مطلقاً قائماً بالتوزيع أو الاستثمار أو الاضمار.
نرى من المفيد ان تؤشر قدرة القول على خلق ذرى تماثل غناها التمويلي والفني عندما تتسيّد فيها قوة استثمار نتائج حكائية ـ تراثية مثلاً .. يمكننا اذاً تحديد جزء من ماهية الإرث الذي يُسهم في استدراج فن (القص)
إليه.
اذ ان أي عنصر جذب يجعل الفنون تتجه اليه بتقليده او التداخل معه من (رواة، شخوص، حوادث، صياغات) تنجذب إليه على وفق أهميته في زمن انتاجه، ثمّ قوة تأثيره بعد انتاجه، ثمّ عمق مستوياته الكشفية، فضلاً عن قدرته على اختراق الحدود الزمنية للماضي والحاضر، وبالإمكان القول: إنّ الإرث الفلسفي والاسطوري كله يصلح للاستثمار، لكن ليس كله يسمح لخلق خلودنا القصصي. لعل من الأجدر وضع اشتراطات استثمارية جديّة تديم العملية الكتابية ضمن المنجز القصصي، فلا يجوز الاتكاء على التراث بهيكله الحالي، كما لا يمكن السيطرة على محتويات التمويل الأُخرى دون تحديد طبيعة الاستثمار والتأكد من ممولاته
الفكرية.
ان من بديهيات خلود الإرث احتواؤه على مادة خلود من نوع ما كتميزه بالحكمة الوجودية الكونية، مما يعني بقاءه فعّالاً خالداً يحفر عميقاً في المقبل من القول. ومن اكثر الذرى الخبرية أهمية ـ في السرد ـ
ما تنقله لغة السرد الاحتمالي كلغة سرد حديثة دافعها التكثيف الصوري للتركيب اللغوي والحفاظ على تنامي أحداث القص واعطاء فكرة المستقبل دافعاً جديداً كاختيار اساسي للقارئ، ثم تأكيد مشاركته في التوقع، فمثلاً فكرة الموسيقى التصويرية في تكثيف الحدث واختصاره والدوران حول (سر) غموضه أهدت هذه اللغة أن تجتاز مرحلة النشأة نحو التبني، حتى أن بعض مجرّبي القص – في سبعينيات العراق القصصية – وضع (قضية السرد الاحتمالي) ظاهرة متفرّدة في منجزه منبهراً بما أحدث من تغيير. لم يفهم الكُتّاب – خارج هذا الغرض – أهمية أو خطورة هذه الظاهرة. كما ان النقاد أهملوها
أيضا.
وفي حمى تصعيد جذوة الدهشة العظمى بـ (لغة السرد الاحتمالي) اخذت الطموحات تجدد جدوى تفعيل آليات القص بالسرد الاحتمالي لأجل ان يوصل التأثير إلى مديات عميقة في النفس والعقل، يغور في الذات الأخلاقية والفكرية وينشئ وجدان (المستقبل) إثر انتشار وهج الدفق اللغوي بطبيعته التركيبية الخاصة – في مفاصل محركات السرد لظاهر الفن القصصي وباطنه.
وفي الحالات جميعها تكون اللغة وجملها أفكارا علنية لمظهر فني يشمل “أبسط وأعقد تركيب فيها (شبه الجملة مثلاً) بما يحقق تظهيراً متصلا (بفهم معين) لفنان متطور الِحس والحساسية” (2).
ولن يصل الفنان القاص ضفة طموحه (ان يكون عامل تغيير انساني عن طريق الاخبار بلغة السرد) الا إذا ضخ قدراته بدرجة مقنعة متجاوزة سطح (الاعتيادي) قافزة إلى جوهر (الاستثنائي).
المصدران المساعدان
(1) عبد المسيح ثروة، الطريق والحدود، دار الحرية، بغداد ،1997 ، ص 39.
(2) سليمان الازرعي، دراسات في القصة والرواية الأردنية، ابن رشد للنشر والتوزيع، عمان، الاردن، 1985، ص9.