{عاملات الطابوق} .. الفيلم الذي سيحطم قلب {آن} !

اسرة ومجتمع 2019/10/27
...

علي بداي  *
عندما رأيت فيلم “ عاملات الطابوق” للمخرجة “إيمان خضير” تنازعتني مشاعر مختلطة. قمة الألم لمعاناة النساء والأطفال الذين أوصلهم العوز الى حد وضع أنفسهم رهائن لدى أصحاب المعامل مقابل أجر ضئيل، وإحساس من عرف متأخرأً أنه كاد أن يضع نفسه بموضع حرج لولا صدفة غيرت مجرى الأحداث. 
فأنا حاولت ضمن جهودي المهنية الهندسية قبل عشر سنين، إقناع كبرى الشركات الأوروبية المختصة بمشاريع البناء البيئي الاستثمار في بلادنا، وبالغت على مايبدو في الحديث عن  حيوية اقتصادنا ومرونته وقدرة مجتمعنا على تقبل مفاهيم الحداثة بما في ذلك تحويل الاقتصاد باتجاه التنمية المستدامة
 ووضع الحفاظ على البيئة كهدف جوهري في كل نشاط. بل انني علقت على حائط مكتبي صورة مستفزة باللغة البابلية لقانون حمورابي الخاص بالبناء والإعمار وتحته ترجمة معتدة: في العراق القديم أول قانون للإعمار على 
الأرض!
 الآن حاولت تخيل السيدة الرقيقة “ آن” مسؤولة العلاقات التي كانت سترافقني الى بغداد قد وصلت معامل “ النهروان” لصناعة الطابوق، تخيلت سيارتنا وهي تقترب من مداخن أكثر من 250 معملاً تنفث سحباً من الدخان الأسود، وتخيلتها تنساق خلف روح الاكتشاف التي تميز الأوروبيين عادة فلا تعود الى ديارها بذات اليوم مصدومة مما رأت فتلغي الموضوع نهائياً،
 بل تواصل رحلتها بعد أن تلف شالها الزهري على وجهها إتقاء الاختناق بالسخام ثم تترجل لتعاين العربات التي تجرها الحمير المنهكة محملة بالطابوق، فيعود لذاكرتها ما قرأته عن حال العمال في بلدها قبل مئتي سنة، وتخيلتها تركض مفزوعة لاحتضان طفل كادت حمولة الحمار الثقيلة أن تنقلب عليه فتطمره تحتها، ورأيتها تغطي وجهها بيدها صارخة بعد أن انهمرت حمولة الطابوق القاسية على جسد الحمار المسكين ثم تطلب مني ترجمة أسئلتها للطفل:
لماذا أنت موجود هنا ياحبيبي؟ 
فيجيبها الطفل ذو الوجه المسخّم والثياب البالية: أنا وأمي وأخواتي نعمل في الليل والنهار، انا من الرابعة فجراً حتى السابعة مساءً لقاء 65 دولاراً في الأسبوع
هل دخلت المدرسة؟ كيف تصلون لمكان العمل؟ هل أن بيوتكم 
قريبه؟
 فيرد الطفل: كلا، لم أدخل المدرسة، كلنا لم ندخل المدرسة، وبيوتنا قريبة جداً فهي في داخل 
المعمل!
ثم تطلب مني “ آن” سؤال الطفل أن يقودنا لبيته.
 آآخ يا “آن” أشفق عليك حتى من الدور التخيلي الذي رسمته لك، أشفق عليك حين سترين مايسمى بيتاً وهو زاوية معتمة أشبه بأمكنة المشردين تتراص داخلها أجساد متعبة الى جانب ركام أفرشة بالية وآنية طبخ غير مغسولة بسبب انقطاع الماء، وحشرات تجد ضالتها بما تبقى من بطاطا ملتصقة بقعر القدر..أتخيل كيف ستمضين بأسئلتك للأم التي تعيل خمسة 
صغار: ما الذي تفعلينه عندما يمرض أحد أطفالك؟
أدعو الله كي يشفيه، لا طبيب هنا ولا مستوصف..هذه هي حالتنا 
ما تخيلته من مشاهد للأوروبية “ آن” كان هو الواقع الصادم الذي عاشته المخرجة العراقية “ إيمان خضير” ثم نقلته لمشاهديها عبر لقطات مؤثرة استدرت دموع الكثيرين منهم.  الفيلم، وماتحدثت به المخرجة خلال عرضه في مدينة “ لاهاي” الهولندية، عن تعرض الأطفال والنساء لحالات مرعبة من الانتهاك لآدميتهم وسط بيئتهم العارية التي لاقدرة لها على رد غاز، ولا مقاومة مغتصب، ولا تسجيل شكوى تكون عاقبتها الطرد من العمل، كل هذا يجعل من انتشار الفيلم ضرورة تفرضها قوة السلطة الرابعة. 
نعم الصحافة والإعلام فتلك هي مهمتهما المقدسة!
نحن نعيش ببلد ديمقراطي،  فأين هي قوانين العمل؟ 
ومامعنى بنود حقوق الإنسان؟ 
وكيف لم تنتبه النقابات الى هذه المجاميع التي تتعرض للابتزاز؟ 
اليس عرض الفيلم اجراء ضرورياً لتثمين شجاعة مخرجته “ إيمان خضير” التي جازفت هي وفريق عملها لتصل الى ما لم يصل له أحد 
قبلها؟ 
المسؤولون والمدافعون عن بيئتنا العراقية مدعوون للتساؤل عن جدوى القوانين التالية في ضوء ماسيرونه في الفيلم:
1. قانون حماية وتحسين البيئة رقم 3 لسنة 1997.
2. نظام تشكيلات دائرة حماية وتحسين البيئة رقم 1 لسنة 1998.
3. نظام الحوافز والاجور لدائرة حماية وتحسين البيئة  واقسام حماية و تحسين البيئة في المحافظات رقم 2 لسنة 1998.
4. تشكيلات مجالس المحافظات لحماية وتحسين البيئة  رقم 4 لسنة 1997.
5. تعليمات مهام واقسام حماية وتحسين البيئة في المحافظات وتشكيلاتها رقم 1 لسنة 
1998.
6. قانون تنظيم مناطق تجميع الانقاض رقم 67 لسنة 1986.
7. تعليمات الاضاءة في بيئة العمل الصادرة عن وزارة الصحة رقم 7 لسنة 1993.
8. تعليمات نقل وتجهيز مياه الشرب بالسيارات الحوضية الصادرة عن وزارة الصحة رقم 5 لسنة 1993.
 
* مهندس إعمار بيئي أمستردام