ونحن نكتب نصًّا، نعايش واقعًا قد لايخطر على بال أحد، وهو الضجيج الذي يخلقه النص حين يولد، فالنص ليس ابن آنيته الزمنية، أو أنه ولد من تحت سنارات اقلامنا أو حروف الكيبورد عفوًا، إنما هو نتيجة لسلسلة من العمليات البيولوجية والاجتماعية والنفسية والبيئية واللغوية والموضوعاتية، فالنص نتاج لمواليد أخرى، واي خلل فيه يعني ثمّة تأثيرات قبلية قد حدثت لمساره فغيرت من تركيبته وتكوينه وشكله، ومن ثم من محتواه وأغراضه. عندما نتصور أنّ النص جنين، يستغرق زمن الاشهر التسعة كي يولد.
علينا أن ندرك أن أي نص يولد اعتباطًا لن يكون جنينا سليم الخلق والتكوين، كل شيء يولد باكتمال شروطه، ولذلك نسمع صوت النص وهو يخرج للعالم وكأنه صوت مولود جديد، مصحوبًا ببكاء أو ضجيج لايمكن فهمه إلا من خلال المشابه والمتماثل للولادات، شخصيًا لا اقرأ النص الذي أنشره يوم خروجه منشورًا في صحيفة أو مجلة أو كتاب، انتظر زمنا كي أقرؤه يكون فيه قد فرغ من صخب ولادته، والضجيج الذي سيحدثه مستجديًا القراءة. بعد ايام عديدة، وبعد أن تهدأ كلماته وجمله وفقراته، يكون النص قد تدفأ بالحياة، والتحف بالرؤية والعناية والوعي به، وقد اسقي وأطعم وتغذى وربما ابتسم وهدأ من أنه جاء للحياة كي يعيش.
كل ما يحتويه النص من لغة وأحداث وشخصيات وأفكار وأسلوب وبنى مختلفة، هي الكيانات الأكثر صخبا وضجيجيا في حياتنا، لقد تدافعت هذه الكيانات مع غيرها من مثيلاتها ومغايراتها كي تأتي إلى النص وتحتل مكانًا فيه، هذه الكلمات والشخصيات والأحداث ليست بنت ساعتها، ولا هي وليد صدفة اعتباطية، إنما هي جزء من الخزين المعرفي للمؤلف ظهر على سطح الكتابة بعد أن وجد نفسه هو الأحق بأن يكون في هذا النص دون سواه، لذلك ليس من كلمة أو جملة أو عبارة أو شخصية أو فكرة أو حدث ولد اعتباطًا، دون أن يكون قد تدافع وقتل العديد من مثيلاته كي يفوز كأي حيمن بإخصاب بيضة النص. تصور أن حرف الجر الذي تختاره للتعبير عن الربط بين جملتين أو فكرتين قد أزاح كل حروف الجر الأخرى كي يحتل المكان الذي يخصه، وكذلك الفعل والاسم والتركيب والمعنى والفكرة والشخصية والحدث والبداية والنهاية، كل شيء يولد في النص يأتي بعد ألم، وسلسلة من التجارب والنضج المستمر كي يكون مهيئا لأن يولد كاملًا في النص.
ولا يمكن فهم المفردات المكونة للنص دون فهم الآلية التي جاءت بها، لو كان النص يتحدث عن البيت، أو الكائن الذي يشغله، أو المكان الذي يبنى فيه، أو البيئة التي تكون محيطه وعلاقاته، أو عن أي جزئية فيه، ستفشل الرؤية النقدية للبيت ومكوناته إذا لم تحسب السلسلة التي سلكتها مكونات النص منذ ولادتها وحتى دخولها النص، وصولًا إلى ولادتها من جديد وفق قراءة القارئ الجديد لها، وهكذا تجد مفردات ذلك البيت حية لازمنة مختلفة، لأنها سلكت في طريقها للنص الطريق الذي نضجت فيه كأي جنين في رحم الممارسة والمعرفة.
ليس النص أحاديا أو ثنائيا أو ثلاثيا أو جماعة من المكونات، بل هو غابة من الأشجار المختلفة، كل كلمة أو معنى أو عبارة أو حدث ولدت في ارضية مختلفة عن أرضية الأخريات، وكل منها يثمر بما يناسب طبيعته الوراثية من الأثمار، لا تشبه مواليد اللغة مواليد الأحداث أو الشخصيات أو الأفكار، لكل مكون لغته الخاصة. النص قبيلة من الكائنات المؤتلفة التي جاءت إليه من اصقاع وبيئات وتكوينات العالم بكل أبعاده السماوية والأرضية، لا تجد عناصر اللغة هي نفسها عناصر الشخصيات أو الأحداث، صحيح أن النص لغة، ولكن اللغة المعنية هنا، هي لغات المكونات النصية، وعلى النقد أن يفرز بين لغة بجذور مثيولوجية وأخرى بجذور نفسية، وثالثة بجذور طبيعية، ورابعة بجذور دينية، وخامسة بجذور علمية...الخ، فالنص قبيلة من اللغات الفرعية التي تكون عناصره، ولكنها بمجموعها وإئتلافها واختلافاتها تكون النص، ومن يعتقد أن الألفة بين مكونات النص لا تتصارع ولايقتل بعضها البعض ولايقوى الجزء على الجزء، فهو اعتقاد خاطئ، أقوام النص الملونة البشرة والمختلفة اللسان والمحددة الأغراض تتصارع فيما بينها ويقتل أحدها الآخر، ويعطل البعض اجزاء اخرى ويتركها عاجزة عن ان تمتد وتستطيل، بينما تنشئ عناصر مكونات فرعية أخرى وجدت نفسها مهيّأة للولادة بفعل اختمار عناصر ومكونات
النص.
فلسفيًّا لايمكن معاملة النص معاملة المفرد، بل معاملة البنية الجماعية، بنية القبيلة اللغوية، ومن خلال هذه البنية الكلية، نغور في تفاصل المنشأ والكيفية التي يفرضها علينا تأويل المفاهيم، لنجد أن أي نص يخلو من عناصر انثروبولوجية أو مثيولوجية تكون لغته ومكوناته فقيرة، ولايمكن أن يحدث اي صوت أو ضجيج عندما يطبع ويقرأ، نص يموت كما لو أنه لم يخلق.
إذا لايمكنك أن تشرب اللبن دون أن تكون هناك بقرة، البقرة مختفية في اللبن ولكنها موجودة كعنصر انثروبولوجي مكوّن.
كما أننا لايمكن ان نكتفي بقراءة النص من أجل اكتشاف جذوره المشتبكة، ونكتفي بذلك، لنقول إنّ الحضارة والمثيولوجيا والتراث والأسطورة قد جرى تمثلها، بل قراءتنا هي لمعرفة كيف ذابت هذه المرجعيات في الرؤية التكوينة التأويلية التي كوّنت النص، ما نحن عليه الآن من بنية جسدية كانت مضمرة في بنية الطفل الذي كنا، النص له ثلاث لغات كبرى، لغة ما قبل النص، ولغة النص المقروءة، ولغة ما بعد النص المستشرفة والمؤولة، وبدون هذه البنية الثلاثية للنص لايمكن القول إننا نكتب أو نقرأ نصا.
أو في سياق موضوعنا لايمكن ان لانسمع صخب النص وضجيجه اللاحق.