المُكلا: استقرار وسط الفوضى

الرياضة 2018/11/26
...

 
الكسندرا زافيس
ترجمة: بهاء سلمان
لا يجرؤ علي استال، سائق الشاحنة، على عبور هذه المنطقة الريفية المليئة بالسلاح والميليشيات بدون وضعه لبندقية كلاشنكوف أو اثنتين مخبأة تحت لوحة القيادة.
لكنه عندما يصل الى حدود مدينة المكلا، يسلّم أسلحته بترحاب الى احدى نقاط التفتيش، ويستلم ايصالاً منها، فربما سيعود لأخذها حين مغادرته المدينة. وتعد المكلا، التي كانت سابقاً معقلاً محصناً للقاعدة، هي إحدى أكثر المدن أمناً في بلد تمزقه حرب أهلية شعواء حصدت ما لا يقل عن عشرة آلاف فرد، وهجرّت مليوني انسان وأرغمت الحكومة المعترف بها دولياً على الانعزال؛ وهي ربما المكان الوحيد في اليمن الذي لا يسمح فيه  للمدنيين بحمل السلاح الناري علناً، بينما هو منظر مألوف في الأماكن الأخرى.
 
استقرار منقوص
لكن بعد سنتين من سيطرة القوات الإماراتية وحلفائها المحليين على المدينة الميناء المطلّة على بحر العرب، تزداد حالة القلق لدى السكان، البالغ عددهم نصف مليون نسمة تقريباً، فرغم توليد الأمن النسبي لارتياح مرحب به بعيداً عن القنابل واطلاق النار الذي كان أمراً شائعاً في السابق، سيعتمد الاستقرار الدائم على إعادة البناء والتنمية الاقتصادية، حيث لم يتحقق الكثير في هذه الجبهات.
وشأنها شأن الكثير من المناطق الخاضعة اسمياً لسلطة الرئيس عبد ربه منصور، تركت المكلا تدافع عن نفسها على نحو واسع. ولا تزال المباني المحطمة بفعل الغارات الجوية تنتشر في بعض الأحياء، وتنقطع الكهرباء لثماني ساعات يومياً، وتتسرب المياه الثقيلة من الأنابيب المتضررة، كما يوجد نقص هائل في المحروقات، علاوة على صعوبة إيجاد وظائف رغم قلة رواتبها.
وتدفقت عوائل شتتها القتال من مناطق يمنية أخرى الى المدينة، لتضيف ضغوطاً على المستشفيات والمدارس والخدمات الأخرى. وتفتقد المكلا أيضا الى التحويلات المالية القادمة من اليمنيين العاملين في السعودية، حيث تم ابعادهم وفقاً لسياسات عمل المملكة التي يراد بها توفير الوظائف للسعوديين؛ كما اسهم التدهور الكبير للعملة اليمنية في خروج احتجاجات ضد ارتفاع الأسعار الهائل.
وكان تنظيم القاعدة قد اجتاح المدينة بلا مقاومة في ربيع 2015، مركزاً على هدفه الرئيس: المتمردين الشماليين المعروفين بالحوثيين، الذين كانوا قد سيطروا قبلها بأشهر على العاصمة صنعاء، وأرغموا الرئيس منصور على الفرار الى عدن، ومن ثم الى السعودية.
صارت المكلا محورا لاقطاعية القاعدة، امتدت لما يقارب أربعمئة ميل على طول الساحل اليمني. وسيطر المسلحون على القواعد العسكرية ومستودعات الأسلحة، ونهبوا مئة مليون دولار من فرع البنك المركزي اليمني، وقرابة مليون ونصف من شركة النفط الوطنية، اضافة لجمع مليوني دولار يوميا كضرائب على البضائع الواردة الى الميناء.
 
سيطرة مطلقة
حكمت القاعدة المدينة بكل وحشية، فارضة عقوبات قاسية على كل  من يجابهها؛ لكن تلك الأعمال العنيفة كانت نادرة، فقد وجد التنظيم وسائل أخرى لكسب رضوخ السكان المحليين، فقد وظف مشاعر التهميش من قبل الشمال المترسخة منذ زمن، موجها بعضا من مكاسبه لمصلحة مشاريعه التنموية المروّج لها بدعاية ضخمة. تقول اليزابيث كيندال، باحثة بالشؤون اليمنية في جامعة اوكسفورد، والتي زارت المنطقة: “يقال أن القاعدة سعت لكسب القلوب والعقول من خلال تعاملها المعتدل مع السكان.”
عبّد المسلحون الطرقات وأصلحوا أنابيب المجاري، ووفرت قيادتهم وظائف للعاطلين مع دفع الرواتب في أوانها المحدد، وهو أمر نادر الحدوث حتى قبل نشوب الحرب؛ كما تعهدوا بالدفاع عن المسلمين السنة، الذين يشكلون الغالبية، ضد هجمات الحوثيين. يقول رب أسرة مكوّنة من خمسة أبناء، طلب عدم ذكر اسمه خشية معاقبته من قادة المدينة الحاليين: “هل تريد الحقيقة؟ لقد كانوا جيدين، فقد فرضوا النظام والفاعلية؛ وكل من يخبرك بعكس ذلك فهو كاذب.”
انسحب تنظيم القاعدة شهر نيسان 2016 إثر الضربات الجوية الاماراتية وهجمات قوة النخبة الحضرمية، وهي قوة يمنية أسسها الاماراتيون. ولأجل الحفاظ على المدينة، حصل اتفاق سمح للمسلحين بأخذ أموالهم وأسلحتهم المسروقة، بحسب مصادر محلية، على الرغم من نفي التحالف العربي لذلك. وتتوقع قلة من الناس تعثر حالة السلام اذا لم تبذل السلطات جهودا اضافية لتحسين ظروف المعيشة، حيث يفصح بدر بسلمة وهو وزير نقل سابق يقيم في المدينة، عن قلقه بخصوص البطالة المرتفعة بين الشباب الذين هم الشريحة الأكبر بين السكان: “اذا لم نهتم بهؤلاء الشباب، فهناك جماعات أخرى، مثل القاعدة و”داعش” وغيرها، مستعدة لدفع المال وتجنيدهم، وبعد كل ما حصل، سنعود الى القتال.”
قلة الأعمال
وبانضمام 30 ألفاً الى قوة النخبة 
الحضرمية، تعد جهة توظيفية كبرى، لكن 
لا يسعها استيعاب جميع الباحثين عن 
عمل، فقد رفضت آلاف الطلبات للانضمام الى تلك القوة؛ كما أن هناك تذمراً من 
تباين كبير بين الرواتب التي يدفعها 
التحالف العربي والرواتب المدفوعة من قبل السلطات المحلية، وهو وضع لا يحمد عقباه مجتمعياً. 
وتتنبأ كيندال بمشكلة أخرى: “ماذا سيحصل حينما تتوقف رواتب هؤلاء الرجال؟ سيقال في موضع ما “صحيح أن الحرب انتهت ولدينا الكثير من الناس المدرّبين المسلحين لكن لا يمكنهم ايجاد عمل”.
لا توجد في أفق حضرموت حلول سهلة، فالواردات من الميناء صارت غير كافية، وعلى الرغم من ثراء المحافظة بالنفط، تذهب المبالغ للحكومة المركزية، الأمر الذي جعل المحافظ، فرج البحسني، يهدد مؤخراً بايقاف صادرات الخام اذا لم تخصص السلطات جزءاً من الأموال، خصوصاً مع ازدياد سعر النفط عالمياً.
ويضع المحافظ آماله على المستثمرين الخارجيين، الذين عبروا عن اهتمامهم بإقامة أعمال تجارية في المكلا؛ لكن البنية 
التحتية والروتين المعقّد والفساد تمثل عوائق كبيرة. ويبقى المطار مغلقا أمام الرحلات التجارية بسبب تحويله من قبل القوات الإماراتية الى قاعدة عسكرية. وينبغي 
على المستوردين الحصول على موافقات من مسؤولي التحالف في السعودية 
لاستخدام الميناء، خشية تهريب شحنات أسلحة الى المتمردين، كما تنتظر السفن أياماً لتفريغ البضائع بسبب نقص الأرصفة الى جانب الرشاوى المتفشية، بحسب تجار محليين.
وتواصل الامارات تجديد المستشفيات والمدارس في المكلا، اضافة لتسليح وتدريب وتمويل النخبة الحضرمية، لكن زعماء محليين أشاروا لعدم فعل التحالف أو المنظمات الانسانية الكثير لتطوير الاقتصاد. 
يقول بسلمه: “لقد نسوا أمراً مهماً للغاية: المساعدة الانسانية تغطي عشرة بالمئة فقط من احتياجات الناس، أما الغالبية المتبقية فتأتي من الجانب الاقتصادي، من الأعمال التجارية وخلق الوظائف.”
وحتى لو وصلت الحرب الى نهاية ما، يتوقع بسلمه بقاء المكلا وبقية أجزاء اليمن، غير مستقرة طيلة سنوات قادمة.