الصراعات المسلحة وتدمير الطفولة

ريبورتاج 2020/01/18
...

بغداد/ فجر محمد
 
غالباً ما يدخل (م، و) البالغ من العمر سبع سنوات والساكن في احدى المناطق التي تحررت من قيود "داعش" بشجارات وصراعات مع اقرانه، اذ يقوم بضربهم بقسوة وشراسة واضحتين، وتقول والدته الثلاثينية (س،خ):"بدأت الاحظ انا و والده عصبيته المفرطة وقسوته بالتعامل مع اقرانه، حتى وصل الامر به في احد الايام الى خنق شقيقه الصغير وحشره في زاوية صغيرة من المنزل وهو يهدده ويتوعده بالقتل، وقد اثار سلوكه هذا قلقنا وولد لدينا تساؤلات مختلفة، لاسيما ان اسرتنا مسالمة وبعيدة عن العنف ومظاهره المختلفة".
الباحثة بالشؤون النفسية والاجتماعية والاكاديمية الدكتورة ندى العابدي تشير الى أن نمو الطفل في اجواء مشحونة بالعنف والتوتر سيؤثر في نضجه الفكري والجسدي مستقبلاً، واذا ما كان محاطاً بالقلق والتوتر، فهو سينشأ شخصية مضطربة ومتوترة وغير قادرة على اثبات الذات والنجاح 
مستقبلاً.
 
تقارير أممية
يعاني الصغار الذين يسكنون في مناطق تجتاحها الحروب والازمات  عدداً كبيراً من المشكلات النفسية والاجتماعية، حيث بين تقرير اممي صدر في وقت سابق عن منظمة اليونيسيف وهو نتائج مسح شامل لوضع الأطفال في العراق أن الصراع واللامساواة لا يزالان يحددان ملامح الطفولة في البلاد، و ان غالبية الأطفال من محدودي الدخل  لا يتلقون أي شكل من أشكال المساعدة ، و حتى عندما تراجعت أعمال الاقتتال فقد بقي ما يقارب الـ 80 بالمئة منهم يتعرضون الى العنف، اما في المنزل أو في المدرسة، كما اشار التقرير الى ان احتياجات تعليم الأطفال في العراق كبيرة، إذ يحتاج نصف مجموع المدارس الحكومية إلى أعمال تأهيل ، وان نحو الثلث منها يعمل وفق نظام الدوام المزدوج ، ما يقلل فترة تعلم الأطفال، كما ان معدلات الالتحاق بالتعليم وارتياد المدارس تصل الى أدنى مستوى في محافظات متعددة من جنوب البلاد، اذ تعد الاكثر فقراً، فضلاً عن الأنبار ونينوى  اللتين تحملتا وطأة أعمال العنف في السنوات القليلة 
الماضية.
واكد التقرير ان  هناك أكثر من مليون طفل بحاجة إلى رعاية نفسية واجتماعية جراء تأثرهم بالحروب، ولم يتناول التقرير العراق وحسب بل اخذ اليمن وسوريا كمثال حي عن اضطهاد الاطفال وحرمانهم من ابسط حقوقهم، فالاولى مثلاً قتل فيها الكثير من الأطفال بسبب الحرب جراء تعرضهم لهجمات سافرة أثناء لعبهم في الهواء الطلق مع أصدقائهم، او خلال توجههم إلى المدرسة أو العودة منها، واحياناً خلال تواجدهم بسلام داخل منازلهم مع أسرهم، اما سوريا فتصر الأمم المتحدة في كل مرة على دق ناقوس الخطر والتحذير من مخاطر الحرب الدائرة في سوريا منذ أكثر من 7 سنوات، خصوصاً على الأطفال الذين قدرت عددهم بقرابة الـ 10 ملايين طفل، ثمة الآن 8.6 مليون طفل بحاجة ماسة إلى المساعدة، بزيادة  نصف مليون عن السنة الأولى 
للحرب.
 
جيل مضطرب
في يوم احتلال "داعش" لمناطقنا، كان صغيري يبلغ من العمر ثلاثة اعوام، اذ كان يلعب مع اصدقائه في احدى الحدائق القريبة من منزلنا، قالت ذلك الثلاثينية (س ،خ) بصوت حزين ومنكسر:"عندما دخلت "داعش" بمعداتها وسياراتها انتاب ولدي واقرانه الرعب والقلق، وبقي صغيري يبكي ويرتجف من الخوف، ولم يكن حاله هو وحده، بل ان جميع الاطفال الذين شهدوا ذلك اليوم، تولد الرعب بداخلهم، وغاب عنهم السلام النفسي والاستقرار منذ ذلك
اليوم".
العابدي بينت ان الصراعات والحروب والازمات ولدت جيلاً مضطرباً مليئاً بالرعب والخوف والقلق، منهم من اصبح انعزالياً بشكل واضح ومنغلقاً على ذاته او مضطرباً وخائفاً ويشعر بأن مستقبله 
مظلم.
ويلفت طبيب الاسرة والمجتمع الدكتور احمد الرديني الى أن تعرض الكثير من الاطفال الى مخاطر جسدية ونفسية خلال الحروب والصراعات والنزاعات المسلحة التي عصفت بالكثير من دول العالم، وفي العراق وبسبب ما تعرض له من ظروف عصيبة ادت الى ظهور حالات من العنف الاسري و ما خلفه من مضاعفات خطيرة جداً، اصبح لايهدد الاطفال وحسب بل الامهات ايضاً اللاتي تعرضن الى حالات اجهاض كثيرة ووفاة الاجنة وهم في ارحام امهاتهم نتيجة الرعب والخوف الذي يتولد في 
الحروب.
 
مشروع وطني
الناشطة في منظمة "شمس بغداد" الثقافية والطبية بلقيس الزاملي بينت أن هناك امراضاً مستوطنة لدى الاطفال الذين نزحوا من اماكن النزاعات والصراعات، اذ بدؤوا يعانون من امراض مختلفة، منها التدرن الرئوي ويعيشون بين اقرانهم دون فهم المخاطر الكبيرة لهذا المرض وامكانية انتقال العدوى والميكروبات بصورة سهلة جداً
، لذلك هناك مقترح ومشروع وطني نهدف الى تحقيقه وهو رعاية الطفل وهو جنين في رحم امه عن طريق الاهتمام بها واعطائها الفيتامينات والمعادن والمقويات الغذائية التي بفضلها تنجب طفلاً قوياً بصحة سليمة ليكبر ويصبح فرداً ناجحاً في المجتمع، ثم تليها فترة الرضاعة وهي مرحلة زمنية مهمة جداً في حياة الطفل، كونها تمهد لمرحلة الدراسة والاختلاط بشكل اكبر مع الاقران، والعمل على زرع حب الوطن والاهل والتعاون وهي امور من شأنها ان تبني جيلاً قوياً متماسكاً 
وصلباً.
 
بناء القدرات
وبينما هي تتصفح البوم صور قديم خاص بمدينتها قبل الدمار  تكمل الثلاثينية (س ، خ) حديثها بالقول:"بعد رحيل "داعش" عن اراضينا استبشرنا خيراً وسمعنا وعوداً كثيرة عن البناء والاعمار، فضلاً عن رعاية اطفالنا وتخليصهم من رواسب تلك الفترة المظلمة، لاسيما انهم قد عادوا الى مقاعد الدراسة ولكنهم يحملون ذكريات مؤلمة عن الفترة التي عاشوها وترعرعوا فيها، لذلك فانا لا استغرب من السلوكيات العنيفة التي يبديها صغيري في تعاملاته 
اليومية".
العابدي ترى ان الطفل الذي عاش في ظل ظروف الحروب والمشكلات المختلفة يحتاج الى الرعاية والاهتمام وفسح المجال امامه ليعبر عن افكاره، وهناك طرق متعددة من بينها اللعب مع اقرانه وممارسة الرياضة والانشطة 
المختلفة.
وتتفق الزاملي معها بالرأي قائلة:"ان الطفل بداخله الكثير من الطاقات التي تحتاج الى تفريغ صحيح وبالمكان المناسب، وهناك عدد لا يستهان به من المواهب الفنية والرياضية والعلمية الموجودة لدى الاطفال بحاجة الى تنمية واهتمام وبناء تلك القدرات كي تظهر الى العلن بصورة 
واضحة".
 
مرحلة ما بعد الصدمة
الرديني اوضح ان هناك مرحلة يتعرض لها الطفل بعد ان تنتهي الحروب والصراعات الدائرة في محيطه وهي ما بعد الصدمة، وتتمثل بتغير واضطراب في السلوك والعيش بقلق وبروز العدوانية بشكل واضح جداً، فضلاً عن اضطرابات النوم والاستيقاظ على اثر الكوابيس المستمرة والخشية من الاماكن المظلمة ورفض الطفل ان ينام بمفرده في غرفته بل يفضل وجود ابويه او احد اشقائه، وفي الجانب الجسدي من الممكن ان يصاب باضطرابات في جهاز المناعة او هرموناته  ما يؤثر في مراحل نموه بالشكل الصحيح والسليم.