مليون فرنسي في احتجاجات لم يسبق لها مثيل

آراء 2018/12/01
...

 د . قيس العزاوي
لأول مرة في تاريخ فرنسا المحافظ، تقود امرأة حركة ثوريَّة اجتماعيَّة تجمع مليون ناشط فرنسي ضد السياسة الاقتصاديَّة لرئيس الجمهوريَّة. ولأوَّل مرة تكون هذه المرأة ملوَّنة، وهي سابقة لم تحدث أبداً في مجتمع تستحوذ التوجهات العنصريَّة فيه على أكثر من ثلث أصوات الفرنسيين، ولأول مرة تكون المتحدثة الرسميَّة باسم المحتجين والتي تفاوض الحكومة باسمهم شابة في الثالثة والثلاثين من عمرها ومن حي فرنسي فقير. إنها بريسيليا لودوسكي بائعة مواد التجميل عبر الانترنت المتحدثة الرسمية اليوم باسم "السترات الصفراء". كانت بريسيليا هي التي أطلقت الاحتجاجات بشكواها ضد وزارة البيئة التي وقع عليها حتى اليوم قرابة مليون فرنسي. هي التي قامت بتعبئة هؤلاء عبر الفيسبوك ضد إجراءات رئيس الجمهورية بزيادة الضرائب على الوقود، في وقت ألغيت فيه الضرائب على أصحاب الثروات الكبرى، وقد ساعدها في ذلك الشاب أيضاً ابن الثلاثينيات اريك دروويه وهو سائق شاحنة أطلق نداءً لكل الشاحنات بقطع الطرق الرئيسة التي تربط المدن الفرنسيَّة، ومحاصرة مستودعات النفط. وقد بدأ التذمر الشعبي بعد الارتفاع المتصاعد لأسعار المحروقات وبخاصة الديزل، وهي سياسة فرضتها الحكومة بذريعة الحفاظ على البيئة من التلوث وتشجيع الفرنسيين على شراء سيارات كهربائية أو صديقة للبيئة...
تطرح حركة الاحتجاجات الاجتماعيَّة التي اجتاحت 50 من المدن الفرنسيَّة الرئيسة واهتزت لها بلجيكا، مخاوف أوروبيَّة لكونها مستمرة بالتمدد بعد أنْ وصلت تأثيراتها ليس الى مقاطعة الوالون البلجيكية التي تتحدث بالفرنسية، ولكن الى مقاطعة الفلاموند التي تتحدث الهولندية أيضاً فقد تظاهر ناشطو "السترات الصفراء" أمام مبنى المفوضية الأوروبيَّة في وسط العاصمة بروكسل. ومن المتوقع أنْ تتفاقم الأزمة إنْ لم تجد السلطات الحل المناسب.
ولكنَّ الأمر المثير للغرابة في هذه الاحتجاجات ليس بقيادتها الغريبة والشابة ولكن بعدم قيادة أحزاب اليسار أو اليمين لها، كما لم تكن وراءها النقابات العماليَّة او الاتحادات الطلابيَّة أو الفلاحيَّة أو منظمات المجتمع المدني أو القوى الصناعيَّة أو الشركات المتعددة الجنسيَّة ولا القوى الدولية وإنْ كانت لكل هذه الجهات أيادٍ خفيَّة في ذلك؟. من هم ذوو "السترات الصفراء"وكيف انطلقت ثورتهم والى أين يسعون؟ هل هي احتجاجات اجتماعية اقتصادية أو إنها احتجاجات سياسية، وما الذي يسعون إليه، هل هدفهم إسقاط الرئيس ماكرون كما ردد البعض أو الحصول على مكاسب اجتماعية؟ هل هي ثورة الفقراء الذين لم تعد لهم القدرة على تحمل أعباء ارتفاع مستويات المعيشة؟ وما هي أدوار الجهات الدولية؟
أولاً: أكدت الاحتجاجات من جديد أهمية شبكات التواصل الاجتماعي، فقد انطلقت عبرها منذ السابع عشر من تشرين الثاني، واتسعت بنحوٍ فعال في كل أنحاء فرنسا وخارج حدودها.
ثانياً: أطلق عليها تظاهرات ذوي "السترات الصفراء" لأنَّ قوانين المرور الفرنسيَّة تجبر سواق الشاحنات بارتدائها عندما يترجلون. ولأنَّ الآلاف منهم تظاهروا في البداية بهذه السترات.
ثالثاً: جمعت الاحتجاجات فرنسيين من كل فئات المجتمع والتوجهات السياسيَّة والشرائح الاجتماعيَّة وأصحاب المعاشات التقاعديَّة الصغيرة، والعاطلين عن العمل والمعترضين من الطلبة على نسبة التخصيصات للتعليم. وكان شعارها المركزي إدانة السياسة الاقتصاديَّة للرئيس ماكرون التي تسببت في تراجع القدرة الشرائيَّة، ومطالبها محض اجتماعية وليست سياسيَّة.
رابعاً: حظيت الاحتجاجات بتأييد ودعم الحزب الشيوعي الفرنسي وحزب فرنسا المتمردة وحزب الجمهوريين اليميني وبقي الحزب الاشتراكي على صمتٍ مريبٍ.. كما أيَّدت بحماس النقابات العماليَّة "سي جي تي" ونقابة "القوة العمالية" وبقيت نقابة "سيف دي تي" الاشتراكية صامتة كما حظيت الاحتجاجات بتغطية وتأييد أغلب الصحف الفرنسيَّة. وأكدت استطلاعات للرأي أنَّ الاحتجاجات تحظى بدعم 75 في المئة من الفرنسيين.
خامساً اتهمت صحيفة "برافدا رو" الروسية بمقالة بعنوان "هل بدأ ترامب ثورة ملونة عندهم؟" اتهمت الرئيس الأميركي ترامب بالتحريض على هذه الاحتجاجات بسبب تجرؤ الرئيس الفرنسي على انتقاده، وإعلانه العزم على تأسيس جيش أوروبي لحماية أوروبا من الولايات المتحدة وروسيا والصين واستعادة السيادة الأوروبية. ولم تجد هذه الاتهامات أي صدى إعلامي.
سادساً: تراجعت شعبية الرئيس ماكرون إلى ما دون 30 في المئة، وهذه أدنى نسبة حصل عليها منذ انتخابه عام 2017. وقد أوضح معهد الاستطلاع الفرنسي "إيلابي" أنَّ 54 في المئة من ناخبي ماكرون يدعمون أو يتعاطفون مع الاحتجاجات..
سابعاً ومن ناحيته أكد الرئيس الفرنسي حرصه على كل ما تعهد به في برنامجه الانتخابي وأنه سيتخذ إجراءات للتخفيف من أعباء الفئات الاجتماعية المهمشة وأنه سيطلق حواراً وطنياً خلال 3 أشهر لمناقشة هذه الملفات. وقال بضرورة إبرام عقد اجتماعي جديد مبني على الثقة وأن الضرائب على المحروقات ستتماشى مع أسعار النفط.. وأنَّ فرنسا ستغلق 14 من مجموع 58 من مفاعلاتها النووية عام 2035، وإغلاق 6 منها عام 2030..
تلك هي باختصار شديد مواصفات الاحتجاجات الشعبية التي قادتها ولأول مرة سيدة فرنسية شابة بكل عزم وتصميم ويساعدها شاب فرنسي بعمرها أسس في خضم الأحداث "الحركة الوطنية ضد ارتفاع نسب الضرائب". لم تعهد فرنسا - كما هي حال العديد من الدول الأوروبية - قيادة النساء، فالمرة الأولى التي تولت اديت كرسون رئاسة الوزراء عام 1991 تعرضت لسخرية الوزراء كما تقول، فكيف نجحت الشابة بريسيليا بقيادة الآلاف المؤلفة من الفرنسيين؟..