عريان السيد خلف

الصفحة الاخيرة 2018/12/08
...

محمد غازي الاخرس
لا أتذكّر متى بالضبط سمعتُ بعريان السيد خلف لكنّني لن أنسى دفتر أخي ذا الغلاف الوردي الذي نُقل فيه ديوان (الكمر والديره) كاملا. كان ذلك بداية الثمانينيات، وللآن، لا أدري بخط زيّن الدفتر بتلك الروائع، ردي ردي ونذر وتعبان وتلولحي.. وسواها، أكان خط خليل، صديق أخي الذي استشهد قبله؟، لا أتذكّر. مع هذا، فإنّني أعرف علّة الركون إلى النسخ حينذاك، فـ (عريان) ممنوع من التداول أو هكذا فهمنا. إنّه شيوعي سابق قرّر البقاء في العراق، وإذ قرّر ذلك، فإنّه آثر الصمت طوال عقد الثمانينيات في وقت اندرج أغلب مجايليه في الجهد التعبوي، فكتبوا أغنيات مجّدوا فيها الحرب وكثير منهم امتدحوا صدام. 
عريان مثّل ظاهرة بهذا الصدد. ظلّ صامتا غائبا عن الأضواء حتى التسعينيات حين استعاد نشاطه. لم يكتب حرفا واحدا للنظام أو في تمجيد حروبه، ويبدو لي أنّ النظام السياسي نفسه ترك له الخيار في ذلك لسبب ما. المهم أنّ الدفتر ذا الغلاف الوردي ظلّ سميري لسنوات طويلة، وكان موجودا في المكتبة حتى سفري عام ٢٠٠٠ ولقائي الأول بالشاعر (عريان) في عمان. كنت لا أفارق ذلك الدفتر حتى أنّني ما زلت أحفظ مقاطع كاملة من قصائده التي هي من فرط فصاحتها ورقتها وسلاستها لا تتطلّب كبير جهد لحفظها. 
في التسعينيات، وعن طريق المصادفة، علمت من نسيبي أن بيت (عريان) يقع في شارعهم. شاعري يسكن بمنطقة حي أور إذن حيث أسكن أنا. دُهشت وصار دأبي حين أذهب لبيت أختي التطلّع إلى داره: أحقا هذا بيت (عريان)! وفي ذات يوم، صادفته بمناسبة اجتماعية في تلك الدربونة. سلّمت عليه دون أن أقول له أنّني أحفظ “الكمر والديره”. لاحقا أخبرته بذلك حين التقيته في الأردن. كان جاء عام 2000 ليقوم برحلة إلى الولايات المتحدة. صادفته بمقهى السنترال وتجرّأت على الحديث معه. كنت أرتعش، فالرجل قديس شعري وذو حضور عجيب. نظراته وصوته ولكنته وهدوءه، كلّ شيء فيه يعطيك الانطباع أنّه من نمط الشعراء الذين لا يولدون إلّا مرّة كلّ ألف عام. في تلك الأيّام العمانيّة، صادف أن حضرت أمسية تاريخية في شقّة صديق ضمّت فوزي كريم وعبد الستار ناصر وعريان السيد خلف وعلي السوداني وخزعل الماجدي وعلي عبد الأمير وعبد الخالق كيطان وعدد آخر بينهم تشيكليون. يومها، دُهشت من جرأة (عريان) على مسامرة معارضين “فاقعين” للنظام السياسي، بل خُيّل إليَّ أنّه طلق العراق وقرر الهجرة. لكنّه لم يفعل وسرعان ما عاد بعد أشهر. حين رأيت (عريان) بعد سقوط النظام ببغداد لم يتذكّرني، لكن علاقتي به توطدت بشكل ما بعدها. شاعر عملاق يطول عنه الحديث ويتطلب عودة أخرى فانتظروني.