رسائل الشاعر في عزلته

ثقافة 2018/12/15
...

 أوس حسن 
 
 
- 1 -
في خريف شاحب تتلاطمه العواصف البعيدة،يقفز ذلك الخريف البعيد أمامي ..البعيد جدا ً مثل سماء قديمة تحدق إلينا في الصور .
مازلت  أفر من الذاكرة ومن رعب الأشياء وهي تفترسني في الكوابيس.
أحدق طويلا ً في الكآبة وهي تسيل من جدران غرفتي،في الكآبة أيضا ً سحر وجمال غامض،لكن العقل وحده مأساتنا الكبرى وجحيمنا البارد في الأزمنة الغريبة. 
أتأمل عاصفة الضباب اللامرئية وهي تحوم حولي، وأرى وجهي يغيب في كل المرايا التي حملت ملامحي الأولى،وفي تلك الفصول المتوهجة بسحر البدايات
لكنني ما زلت بخير رغم النجوم التي تطعنني كل مساء ،رغم الأمس الذي ما زال يمضي في شريط داكن ،رغم المتاهة التي اقتلعت عظام جمجمتي ؛ما زلت بخير، نعم مازلت بخير..أبكي وحيداً مع الصمت والموسيقى وأكتب لكم كل يوم من رماد العزلة.                                                                                                                 
 
 - 2 -
بعد أن منيت بخسارات كبيرة أدركت أن اسطورتي الشخصية ولدت، وأن نبوءة غامضة تشكلت في داخلي . لا سعادة أكثر من أن تسمع أصوات الملائكة وهي تطرق باب سكينتك وتأملاتك الليلية، لا سعادة أكثر من أن تكون خارج اهتمام البشر ودائرة تفاصيلهم اليومية.
 لقد زال الضباب الذي يفصلني عن حقيقة الأشياء وأدركت هشاشة الكيان الإنساني وهو يعيش في غابة من سراب،لم أعد أريد شيئا ً الآن سوى العيش بكامل حريتي وكينونتي متوهجاً بالمحبة السماوية،ولو قدر لي أن أموت، يجب أن أموت وحيداً بلا قبر أو شاهدة،أن اختفي فجأة هكذا بلا ضجيج ولا صخب.الموت بعيداً عن دموع البشر وشفقتهم القاسية محبة تمنحها لنا آلهة العالم القديم.
 
 - 3 -
كنت وحيداً كعادتي في زقاق اكتشفته صدفة ساعة الغروب، كانت الآفاق ترسم لوحة سحرية تنثال ألوانها وظلالها  على المدينة،فها هو سرب من الطيور المهاجرة يحلق ويذوب  رويداً..رويدً في حمرة المدى البعيد، والغيوم تثير شيئاً من الرهبة والعظمة وهي تبتلع الصمت المجروح بالذكرى.بدأت حركة المدينة تخف تدريجياً وخيط من العتمة كان يتسلل في الزقاق ممزوجاً بإضاءة المصابيح.اكتسى وجه السماء بشحوب غامض ولذيذ،لا أدري كم مرة ولدت وكم مرة عشت، وكم مرة تعثرت بانحناءات الزمن ؟ كل الحوادث التي مرت أمامي اليوم  رأيتها فيما مضى مرات عديدة.
 ترى هل كنت منفياً من حلم إلى آخر؟،هل كنت مسافراً في عربات النجوم بنورها المتوثب خلف صباحات التاريخ؟ ...لا أدري وربما لن أدري أبداً.لقد مر بي هذا الشعور سابقاً  لكن ليس بتلك الوحشية الجميلة.اليوم فقط شعرت أني ولدت من جديد وأن الحياة في داخلي  تزداد اتقاداً واشتعالاً.
 
 - 4 - 
حتماً سينتصر الزمن على الإنسان، وفي خريف العمر ستتقاذفنا الأسئلة الموجعة هل حقاً كنا محض أكذوبة كبرى؟ في خريف العمر سنجلس إلى طاولة من الخمر والذكريات والأوهام، سنثرثر كثيراً، ونضحك كثيراً، لكن قبيل النوم سنبكي سراً مع أنفسنا، سنبكي كالأطفال على كل الأشياء الضائعة، الأشياء الحقيقية التي هربت منا عندما قررنا أن نصبح أشياء كبيرة في هذا العالم. 
 
- 5 - 
يا صاحب الذكريات المبتورة، والهوية المعدومة، والمكان المتلاشي في فضاء الذاكرة
أيها المنسي خلف جدران الظلام..سأكتب إليك من زمن القبح والرداءة،سأكتب إليك من عتمة عالمنا الكئيب،سأكتب إليك أيها الصامت الأبدي،فأنت الأسطورة الموعودة بعد حين.