القضاء والقدر وإشكاليَّة تعطيل الفعل الإنساني

العراق 2020/04/09
...

جواد علي كسار
قدّم الصدر العديد من المساهمات في الفكر الاجتماعي، تضمّنت نقدات عميقة للواقع القائم وتصحيحاً للمعتقدات السائدة، ممّا انجرّ إلى متاهات الفهم العرفي الخاطئ، كما هي الحال في القضاء والقدر. لمعت في ذلك إشارات في كتاب «اقتصادنا» الذي صدر قبل ستة عقود، ثمّ تكثّفت أكثر وراحت تكتسب طابعاً منظومياً ومنهجياً، في ما قدّمه السيّد الصدر من بحوث نظرية في السنن التاريخية وعناصر المجتمع في القرآن الكريم أواخر حياته.
المقاربة السننيَّة
في البدء أكّد الصدر الطابع العام الذي التزم به تيّار عريض من الفكر العقدي الإسلامي في تفسير القضاء والقدر، بوصفهما تعبيراً عن النظام السببي الموجود بين الظواهر والأشياء، مشيراً إلى أنّ هذه الروابط والعلاقات هي في الحقيقة تعبير «عن حكمة الله سبحانه وحسن تقديره وبنائه التكويني» (المدرسة القرآنية، ص79 ). فقدر الله جلّ جلاله هي الروابط والعلاقات الموجودة في الأشياء بدءاً وبنية وتكويناً بحيث تكون خاضعة للأسباب والقوانين والسنن، وهذا هو معنى القدر. وإذا كان الصدر قد ركّز في دراسته على حركة السنن في التاريخ والمجتمع، إلاّ أنّه يسجّل بوضوح أنّ هذا النسق ينتظم جميع الساحات الكونية والوجودية، ويشمل الفواعل كافّة طبيعية واختياريّة.
حين يملأ هذا التصوّر المشهد الكوني والوجودي برمّته، تتلاشى جميع المدلولات الخاطئة في تفسير الحوادث والتعامل مع الواقع الخارجي على أساس القضاء والقدر بمعناه العرفي المغلوط، أو من خلال العقلية الغيبية بالمعنى الشعبي الذي يجمّد الفعل الإنساني ويسوّغ الاستسلام. ومع أنّ الخطّ العام للنبؤّات وهدي السماء أكّد هذا المعنى، إلاّ أنّ القرآن الكريم ركّز عليه على نحو مكثّف واستثنائيّ: «في حدود ما نعلم، القرآن أوّل كتاب عرفه الإنسان أكّد على هذا المفهوم، وكشف عنه وأصرّ عليه، وقاوم بكلّ ما لديه من وسائل الإقناع والتفهيم؛ قاوم النظرة العفوية أو النظرة الغيبية الاستسلامية بتفسير الأحداث. الإنسان الاعتيادي كان يفسّر أحداث التاريخ [كمثال حيث كان يتحدّث الصدر عن هذا الموضوع] بوصفها كومة متراكمة من الأحداث؛ يفسّرها على أساس الصدفة تارةً، وعلى أساس القضاء والقدر والاستسلام لأمر الله سبحانه وتعالى، القرآن الكريم قاوم هذه النظرة العفوية، وقاوم هذه النظرة الاستسلامية، ونبّه العقل البشري إلى أنّ هذه الساحة لها سنن ولها قوانين» (المدرسة القرآنية، ص 71ـ 72).
 
القضاء والقدر سننياً
بعد أن قدّم الصدر للقضاء والقدر منظوراً تفسيريّاً يقوم على أساس سببيّ سننيّ يضرب في تكوين الظواهر والأشياء، سعى إلى المواجهة والتصحيح معاً، عبر بناء منظورات جديدة لفهم التاريخ والمجتمع، حيث كان حديثه يدور حولهما، وإلاّ فهما لا يعدوان كونهما مثالاً وحسب، وذلك في ضوء الأساس الجديد، ومواجهة التفسيرات والتصوّرات الخاطئة بنقد مكثّف.
فحتّى يكون الإنسان فاعلاً لا بدّ أن يقتحم مضمار الطبيعة والحياة، في حركة اكتشاف وتوظيف دائبين لقوانينها وسننها، وهذه هي النتيجة المنطقية لنظرية الأمر بين الأمرين على مستوى الفعل الإنساني، ولنظرية التفسير السببي والسنني على مستوى القضاء والقدر: «لكي تستطيع أن تكون إنساناً فاعلاً مؤثِّراً، لا بدّ لك أن تكتشف هذه السنن، لا بدّ لك أنْ تتعرّف على هذه القوانين لكي تستطيع أنْ تتحكّم فيها، وإلاّ تحكَّمت فيك وأنت مغمض العينين، افتح عينيك على هذه القوانين، على هذه السنن لكي تكون أنت المتحكّم لا لكي تكون هي المتحكِّمة فيك» (المصدر السابق، ص 72).
إنها دعوة للإنسان كي يفجِّر طاقاته الكامنة وما فيه من قوى واستعدادات في اقتحام الطبيعة والحياة، الأكثر من ذلك أنّ الصدر يتقدّم خطوات إلى الإمام على طريق هذا الفهم، وهو يسجِّل نصّاً أنّ هذه السنن والأسباب «لا تجري من فوق رأس الإنسان بل تجري من تحت يده» وذلك لأنّ إرادة الإنسان وفكره واختياره هي الأساس «لحركة التاريخ والبناء الاجتماعي العلوي بكلّ ما يضمّ من علاقات ومن أنظمة وتفاصيل» (المصدر السابق، ص 141).
 
الفاعلية الإنسانية
زد على ذلك أنّ القضاء والقدر بتفسيرهما السببي ومفهومهما السنني، ليس فقط لا يعطّلان إرادة الإنسان وحرّيته وفعله بل هما يركّزان مسؤوليته، لأنّ هذه السنن «لا تفصل الإنسان عن دوره الإيجابي ولا تعطّل فيه إرادته وحريّته واختياره، وإنّما تؤكّد أكثر فأكثر مسؤوليّته على الساحة التاريخية». كما تعمد أيضاً إلى تصليب الاختيار الإنساني ومنحه قوّة إضافية، كما هي الحال في السنن الاجتماعية التي تنتج آثارها في إطار القضية الشرطية؛ أي في إطار فعل الإنسان نفسه وإرادته: «إنّ السنّة حينئذ تُطغي اختيار الإنسان، تزيده اختياراً وقدرة وتمكّناً من التصرّف في موقعه.. هي في الحقيقة ليست على حساب إرادة الإنسان وليست نقيضاً لاختيار الإنسان، بل هي مؤكّدة لاختيار الإنسان» (المصدر السابق، ص 110ـ 111).
 
معضلة القدر والحرية
لنقارن بين هذا الفهم للقدر الذي يصلّب إرادة الإنسان ويرسّخ إمكانه على الفعل، ويحرّضه على أنْ يصنع قدره بنفسه من خلال سنن الله المودعة في الكون اكتشافاً ووعياً وفعلاً، لكي لا تمرق السنن من بين يديه ولا تسحقه عجلة الوقائع، ولا يقع مخلوب اللبّ عاجزاً أمام الحوادث مستسلماً لها باسم الإيمان بالغيب، وبين فهم الغربيين ومن يتابعهم لما يسمّونه «معضلة القدر والحريّة»، وفقاً لتصوير كاتب قدير لهذا الفهم، جاء فيه: «إنّ (القدر) في تصوّرهم (الغربيّين) ضربة مفاجئة تجيء على حين غفلة لكي تقصم ظهر الإنسان، ودعابة درامية ثقيلة ومحزنة تصوّر الآلهة وهم يرسمون الخطط الخبيثة لإيقاع العباد في الشباك التي نُصبت بمهارة.. إنّ الصورة القرآنية تكنس هذا الغثاء لكي تُعيد صيغة العلاقة بين الناس وأقدارهم إلى موقعها الإنساني المنطقيّ العادل.. وبهذا يؤكّد الإسلام موقفه الإنساني المفتوح ورفضه الكلّي للقدرية التراجيدية القائمة على الغشم والمفاجئة» (التفسير الإسلامي للتاريخ، ص 138).
كثيراً ما نرى نقّاد الفكر الاجتماعي العام الذي لا يلتزم أصحابه بمنطلقات الإسلام وخياراته، يستكثرون على أنفسهم نقد القدرية التواكلية والغيبية الاستسلامية ويعدّون ذلك إنجازاً كبيراً يُباهون به، وهذه نصوص الصدر تفيض بهذا وما يزيد عليه، حين يزيل الغشاوة عمّن يتوهّم أنّ النصر حقّ إلهيّ للمسلمين لمجرّد أنّهم مسلمون: «لا تتخيّلوا أنّ النصر حقّ إلهي لكم، وإنّما النصر حقّ طبيعيّ لكم بقدر ما يمكن أنْ توفّروا الشروط الموضوعية لهذا النصر، بحسب منطق سنن التاريخ التي وضعها الله سبحانه كونياً لا تشريعيّاً» (المدرسة القرآنية، ص 50).
وفي السياق ذاته انطلق نقده في أماكن عديدة لنظريات التفسير الإلهي للطبيعة والتاريخ والمجتمع، سواء في بيئة المسلمين وما نبت بها من تيّارات فكرية، أو على صعيد الفكر الأوروبي الذي شهد في برهة معيّنة ازدهار النظريات اللاهوتية.
 
إشكالية التخلف
من التاريخ والمجتمع إلى موضوع التنمية والعمران والمعركة ضدّ التخلّف، يواصل الصدر التحرّك على المسار ذاته. ففي دراسته للمرجعيات الفكرية التي أطّرت تجارب التنمية في العالم الإسلامي وانتهت بأجمعها إلى الفشل، نبّه الصدر المعنيّين إلى خطر الوقوع ضحية التحليل الغربي الذي يلقي بتبعات الفشل على أخلاقية إنسان العالم الإسلامي وإيمانه بالغيب وبالقدر. فقد كتب في سياق ردّه على أحد ممثّلي هذه النزعة «جاك أوستروي» في كتابه «التنمية الاقتصادية»، ما نصّه: «إنّ اتجاه إنسان العالم الإسلامي إلى السماء لا يعني بمدلوله الأصيل استسلام الإنسان للقدر واتّكاله على الظروف والفرص، وشعوره بالعجز الكامل عن الخلق والإبداع كما حاول ذلك جاك أوستروي» (اقتصادنا، ص 23ـ 24). 
وإنّما يعكس ارتباط الإنسان المسلم بالسماء وإيمانه بالغيب مبدأ الخلافة الربّانية لهذا الإنسان في الأرض، وشتّان بين مفهوم الخلافة الربّانية وما يستلزمه من إرادة ومسؤولية، وما يستبطنه من طاقات وثراء عريض وبين القضاء والقدر بمدلولهما السلبي، وبحسب الصدر نفسه: «لا أعرف مفهوماً أغنى من مفهوم الخلافة لله في التأكيد على قدرة الإنسان وطاقاته التي تجعل منه خليفة السيِّد المطلق في الكون، كما لا أعرف مفهوماً أبعد من مفهوم الخلافة لله عن الاستسلام للقدر والظروف، لأنّ الخلافة تستبطن معنى المسؤولية تجاه ما يستخلف عليه، ولا مسؤولية بدون حرّية وشعور بالاختيار والتمكّن من التحكّم في الظروف، وإلاّ فأيّ استخلاف هذا إذا كان الإنسان مقيّداً أو مسيّراً؟» (المصدر السابق، ص 24).
 
عوامل أُخر
طبيعي يندرج هذا الكلام للسيّد الصدر عن التنمية أو التقدّم والتخلّف في إطار المسألة المثارة، أي في نطاق البحث النظري ذي الصلة بعقيدة القضاء والقدر، وإلاّ كلّنا يعرف وجود أسباب موضوعية تكتنف القضية تمتدّ خارج محيط العوامل النظرية لا يكتمل المشهد من دونها. فلا التقدّم الغربي ثمرة محضة للنشاط والعمل والعقلانية، ولا التأخّر الشرقي معلول بالكامل إلى السلبية والكسل والغيبية. فالنهب ومراكمة الثروات عبر الاستعمار وأشكال السيطرة الجديدة داخل في قوام التجربة الأولى، في حين تبدو السيطرة والتحجيم والمواجهة بالحصار الاقتصادي والتدمير العسكري، والتبعيتين المنهجية والنفسية؛ عناصر في استراتيجية غربية ثابتة هدّدت ولا تزال جميع تجارب التنمية والنهوض في العالم الإسلامي، منذ تجربة محمد علي (1769ـ 1849م) في مصر حتّى الوقت الحاضر، بغضّ النظر عن منطلقاتها وإسلامية كانت أم وطنية أم علمانية!
 
تخطّي الثنائيات
من جانب آخر يلحظ أنّ الفهم الذي يقدّمه السيّد الصدر ومن سبقه للقضاء والقدر، وتفسيرهما على أساس سببي ـ سنني، ينقل المجتمع إلى قمّة الحراك والفاعلية والنشاط، من دون أنْ يفقده إيمانه بربّه ودينه، وذلك في مقابل المأزق الذي يدفع به مشروع التحديث الغربي حين يضع المجتمعات المسلمة في مفترق صعب بين البقاء على الإسلام والتخلّي عن التقدّم، أو الولوج في مسارات التقدّم والتحديث والتخلّي عن الإسلام، بناءً على ما يذهب إليه هذا المشروع من أنّ «المجتمع الحراكي» هو فقط المجتمع العلماني الذي يتحرّر من حتميات القدر ويصنع مستقبله على أساس العقلانية ومبدأ الاختيار.
 على سبيل المثال يقدّم دانيال ليرنر في كتابه «اختفاء المجتمع التقليدي» تصوّراً عن التحديث العالمي، يستلزم نظرية عالمية شاملة عن العلمانية، تضع التخلّي عن الدين شرطاً للتحديث، والتحرّر من حتميات القدر شرطاً للحراك الاجتماعي لأنّ «المجتمع الحراكي» العلماني برأيه هو وحده المجتمع الذي «يشجّع العقلانية، لأنّ حساب الاختيار يشكّل السلوك الفردي وشروط مكافأته، ذلك لأنّ الناس يرون مستقبلهم الاجتماعي كشيء يمكن صياغته وليس أمراً محتوماً، كما ينظرون إلى الآخرين في ضوء إنجازاتهم وليس من خلال ما يرثونه» (علم الاجتماع والإسلام: دراسة نقدية لفكر ماكس فيبر، ص 224). على هذا يغدو الإنسان العلماني في المجتمع الحراكي هو «شخص نشط وعمليّ بعكس التقليدي الذي يرى عمله شيئاً منتهياً ولا يمكن تغييره» (المصدر السابق نفسه).
وهذه نتيجة يكذبها الوجدان، من خلال تجارب النموّ خارج مدار الثقافة الغربية، كما هي حال اليابان والصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة والهند والبرازيل وغيرها، كما أنها مدحوضة أيضاً بتجارب التنمية الممتازة في أكثر من بلد، على محور البلدان الإسلامية غير العربية، ولا سيّما ماليزيا وإيران وتركيا، وإلى حدّ ما باكستان وأندونيسيا.
 
نتيجتان
نخلص نهاية هذه الجولة الخاطفة في الفكر الاجتماعي للصدر، إلى النتيجتين التاليتين:
الأولى: وهي ترتبط بوجود الله على المسرح والفعل الإنساني، مفادها انّ جريان السنن والنواميس في الوجود وعالم الخليقة الإنسانية، وما تمليه من روابط وعلاقات بين أجزاء الوجود، وفي حركة الإنسان والمجتمع ومسار التاريخ، إنّما هو: «في الحقيقة تعبير عن حكمة الله سبحانه وتعالى، وحُسن تقديره، وبنائه التكويني» للوجود والطبيعة وعالم الخليقة. وحين تكون هذه السنن والنواميس هي بذاتها تقدير الله وقدره، ويكون القدر جزءاً من البناء التكويني للطبيعة والوجود الإنساني، فإنّ ذلك لا يعني تجميد إرادة الإنسان وتعطيل حرّيته بالاختيار، عبر وهم مصادرة هذه الإرادة والحريّة بفكرة السنّة والناموس، خاصّة على مستوى الفواعل الاختيارية التي يأتي الإنسان في طليعتها، وهو يصنع وجوده في التاريخ ويؤسّس لمجتمعه، وذلك لأنّ هذه السنن «لا تجري من فوق رأس الإنسان، بل تجري من تحت يده» (المدرسة القرآنية، ص 84) ومن ثمّ فهو سهيم في إيجاد قدره والتمهيد لنوع قضائه، بمشيئة الله الذي منحه القدرة على الحرّية والاختيار، وشاء بحكمته البالغة أنْ يجري الكون والوجود الإنساني على أساس سنن محدّدة، يدركها الإنسان بعقله وينال منافعها بكدحه وجهده.
الثانية: ولها علاقة بمصير التنمية ومآلاتها في العالم الإسلامي، فقبل أربعين عاماً من الآن تناول محمّد باقر الصدر تجارب التنمية، في نطاق دراسة اتّجهت إلى معاينة عجز هذه التجارب عن تحقيق النجاح من زاوية نقد أُطرها الفكرية، حيث لاحظ أنّ هذه الأطر تنتمي إلى حوامل فكرية، إمّا أنّها تتصادم مع عقيدة المجتمعات الإسلامية أو لا صلة لها بهذه العقيدة، الأمر الذي انتهى إمّا إلى مقاومة الإنسان المسلم لهذه التجارب، أو اتّخاذ موقف السلبية واللامبالاة منها، والنتيجة واحدة.
في ضوء ذلك دعا الصدر إلى إعادة النظر بقضيّة التنمية من خلال ممارستها عبر المنظومة العقيدية لهذه المجتمعات، بوصف ذلك الإطار الناجح الذي بمقدوره أنْ يستنهض جهود الأمّة، ويعبّئ طاقاتها ويحرّك إمكاناتها للمعركة ضدّ التخلّف، ويهيّئ قدرات هائلة في مجال التطوير الحضاري والقضاء على التخلّف، ويقضي من ثمّ على الانتظار والإثنينية بين عقيدة الأمّة وإيمانها، وبين الأطر الغريبة التي تستند إليها تجارب التنمية، وهي تتخلّى عن دين الناس وثقافتهم وأعرافهم وتتحرّك بمعزل عنها. (اقتصادنا، ص 7ـ 25).