{كوفيد - 19} يحدد مستقبل العلاقات الأميركية الصينية

العراق 2020/04/13
...

ترجمة: أنيس الصفار
 

من المبكر الآن التنبؤ بالآثار النهائية التي ستخلفها جائحة “كوفيد-19” على العلاقات الأميركية الصينية، ثمة مؤشرات عديدة تشي باحتمال حدوث تدهور متسارع بين الطرفين، إذ يوجه كل منهما اصبع الاتهام الى الطرف الآخر ويتنافس معه على كسب المصداقية والنفوذ وسط ردود الفعل العالمية، بيد أن الازمة تسلط الضوء ايضاً على وجود فرصة سانحة (وحاجة ايضاً) لضم بكين وواشنطن قواهما معاً في التصدي للفيروس وبذلك تفتحان الطريق صوب تعاون ثنائي أوسع وبناء الثقة المتبادلة.

دعنا نستعيد المسار الذي كانت تمضي عليه العلاقات الأميركية الصينية في مطلع العام 2020، وهو الوقت بالتحديد الذي كان “كوفيد-19” يتسلل فيه خارجاً من ووهان الى العالم، لقد كانت واشنطن وبكين تمضيان على مسار يشبه دوّامة تهوي الى الاسفل بدفع وتغذية توجهات جيوسياسية عديدة.
أولاً .. كان هناك التباعد المتزايد المعروف بين “خط صعود الصين” وخط الانحدار النسبي للولايات المتحدة، ذلك التباعد الذي ابتدأ تحديداً منذ الأزمة المالية العالمية في 2008 الى 2009.
حفز هذا الوضع بكين على القاء ثقلها وراء مكاسبها المادية في محاولة لتوسيع نفوذها العالمي، في حين انشغلت واشنطن بالتعامل مع مشكلة الخلل الوظيفي الداخلي عندها وبدء ظهور الحدود المحجّمة لسطوتها على الصعيد العالمي.
ثانياً وجود الافتراض (الذي مرده الى حد كبير تراكمات حقبة الحرب الباردة) بأن التباعد المشار اليه يعكس واقع التحدي الوجودي بين الجانبين ويمده بأسباب القوّة.
ثالثاً هناك التصاعد في التوترات الثنائية، الذي بقي مستمراً على مدى السنوات الثلاث الماضية، ثم غذته الحرب التجارية وتنامي الحذر الأميركي تجاه الدبلوماسية التوسعية والانتشار العسكري وعمليات فرض النفوذ التي تمارسها الصين.
من العوامل الثلاثة السابقة يبرز عامل رابع هو ميل كل من بكين وواشنطن، عن قصد وسابق علم، الى اساءة تأويل وتفسير النوايا الستراتيجية كل منهما للآخر، فبكين ترى في كل ركن من العالم دلائل تشهد على ستراتيجية الولايات المتحدة المتمثلة بالاحتواء وتغيير الانظمة، بالمقابل ترى واشنطن في تصرفات الصينيين شواهد تكشف سعيهم المحموم لفرض هيمنتهم على العالم، فهي تشبّه السلوك الصيني التنافسي على نطاق العالم بأنه مجموعة من السلوكيات الافتراسية الخبيثة “المخالفة للأصول والقواعد”، هذا كله جعل من الصعب على أي منهما أن يتفهم منظور الآخر فهماً صادقاً وأميناً او يقر له بأي مصداقية، كذلك سهّل هذا الوضع على كل من الطرفين القاء اللوم على صاحبه واتهامه بأنه يتعمد الحاق الأذى بنفسه في ما يتعرض له من مشكلات.
ثم جاء “كوفيد-19” .. وكما هو متوقع عكست ردود الفعل الأولى لبكين وواشنطن المواقف والتوجهات القديمة نفسها، شكوك وارتيابات ستراتيجية واساءة فهم وخصومة صارت تصطبغ أكثر فأكثر بلون العداوة والخبث المتبادل، ظهر هذا بأوضح ما يكون في ميدانين، الادعاءات المتبارية في تحديد المنبع الاصلي الذي انطلق منه الفيروس، والروايات المتنافسة ايضاً بشأن اي الدولتين كانت أكثر مساهمة وفعالية في مقارعته.
كانت أبرز نظريات المؤامرة بخصوص مصدر “كوفيد-19” وأكثرها إثارة للاهتمام ما روجه دبلوماسي صيني أشاع التصور بأن الفيروس ربما يكون قد دسَّ في مدينة ووهان دساً في تشرين الأول 2019 من قبل عناصر تابعة للجيش الأميركي (كانوا حاضرين في الصين حينها للمشاركة في التمارين العسكرية العالمية) في حين اشاع سيناتور أميركي، وآخرون أيضاً، نظرية تزعم أن الفيروس قد خرج أصلاً من مختبر للأسلحة البايولوجية في ووهان.
ثمة اختلاف مهم طبعاً بين دبلوماسي صيني يبدو وكأنه يتحدث من موقع السلطة ممثلاً لبكين وسيناتور لا يمثل حسب النظام الأميركي أكثر من وجهة نظره، أياً يكن من أمر فقد تراجع الجانبان بعض الشيء في خطابهما اللاحق عن تلك الاتهامات، ولكنهما أسفرا عن كوامن العداء وعدم الثقة المتبادلة بينهما واستعداد كل منهما لإلقاء التبعة على الطرف الآخر، بينما سيتسبب به الفيروس من آثار وتبعات.
في واقع الأمر أن كلا الجانبين قد اساءا التعامل مع الفيروس في مراحل انتشاره الأولى، وكانت الاسباب الحقيقية (لا المزعومة) وراء ذلك هي: ضعف الاستعدادات، وعدم التأكد، وتشوش الصورة بشأن ما سيحدث، ومحاولة التنصل من المسؤولية عن أزمة مروعة آتية، والتهيب من اتخاذ الاجراءات الصارمة التي يقتضيها الموقف، اكتسبت المسألة بعداً سياسياً لدى الجانبين، ولو بطرق مختلفة: فقد تجنب الحزب الشيوعي الصيني الشفافية والصدق خلال مراحل الاندلاع الأولى للوباء في محاولة منه لإفشال أي انتقادات توجه اليه على الصعيد العام بسبب ضعف كفاءته في الاداء، أما ادارة ترامب فقد توانت في الاقرار بجدية “كوفيد-19” من منطلق ان خصوم ترامب السياسيين قد بالغوا بالأمر وضخموه محاولين إضعاف فرص اعادة  انتخابه، بيد أن كلا السلوكين لم يلبث ان انقلب على صاحبه وراح يلاحقه بلا هوادة.
تشير الأدلة المتوفرة، ولو أن بعضها لا يزال ناقصاً ومفتقراً الى الحسم، الى ان الفيروس قد جاء من مدينة ووهان، وتبقى هناك اسئلة مهمة ينبغي الاجابة عليها بشأن هفوات بكين وتعثرها المنتظم في تشخيصه والحد من انتشاره وإبلاغ الدول الأخرى بأمره.
إلا أن ما وقع خلال شهري كانون الأول وكانون الثاني قد ولى وفات، والولايات المتحدة اليوم في خضم ازمة عظيمة متلاطمة يكاد يكون من المؤكد أن تلقى تبعتها على ضعف استعدادها وتأهبها، رغم توفر اشعار مبكر لها لم يتوفر مثله لبكين، بدلاً من القاء التبعة على بكين لفشلها في احتواء الفيروس.
الخطابان المتنافسان الاخران ظهر انعكاسهما في الكيفية، التي صنف بها كل طرف رد الفعل الدبلوماسي لدى الطرف الاخر حيال الانتشار العالمي لفيروس “كوفيد-19”.
توجه جل الخطاب الأميركي، مثلما كان متوقعاً، صوب تركيز الأضواء على جهود بكين لاستعراض نجاحها المشهود في كبح انتشار الفيروس داخل الصين وعدّه المثل والنموذج الذي ينبغي على باقي أمم الأرض الاقتداء به، لذا يكون هذا النجاح شاهداً على تفوق النموذج الصيني تطوراً 
وحكومة.
بدا هذا كله وكأنه انعكاس لما فعلته الولايات المتحدة في مسعاها لإظهار سياسة الصين الخارجية، حتى من قبل عهد كوفيد، بأنها تستهدف تصدير قيمها ومثلها كجزء من ستراتيجية نزع المصداقية عن النظام الأميركي بقصد إزاحة الولايات المتحدة في نهاية المطاف عن موقعها والحلول محلها في قيادة العالم، بناء على ذلك أخذت واشنطن تصعد سرعة حملتها الهادفة لنزع المصداقية عن النموذج الصيني وتسليط الضوء على ان الصين هي من يجب أن يتحمل جريرة نشر الفيروس والتنافس معها على كسب القلوب والعقول في بلدان اخرى تحتاج الى المساعدة، لكي تتمكن من اجتياز الأزمة.
من الواضح أن بكين قد استغلت هذه الفرصة لتسجل نقاطاً في صالح تنافسها الستراتيجي مع الولايات المتحدة، وتحقيق هدفها المتمثل بـ “إصلاح نظام الحوكمة على نطاق العالم” وبناء “مجتمع المصالح المشتركة” العالمي الاكثر تجاوباً وتمثيلاً لمصالح الصين، من الواضح أن بكين تسعى الى حرف الانتباه عن سوء تعاملها مع الاندلاع الأولي للمرض والتركيز بدلاً من ذلك على ابراز المشكلات المرتبطة بتعامل الولايات المتحدة مع الفيروس، كذلك تعمل الصين على التوسع في ايصال التجهيزات والخبرات الطبية الى البلدان التي تحتاج اليها، لذلك ستكون النتيجة المرجحة بعد انجلاء الأزمة هي خروج بكين بسمعة أطيب وأكثر ايجابية على الصعيد الدولي مما كانت قبل الجائحة، ولو ان تلك السمعة ستبقى دون سمعة واشنطن.
يبقى من المهم بعد مرور موجة “كوفيد-19” وانقضائها، مثلما كان مهماً قبل مجيئها، تجنب المبالغة في تصوير مطامح بكين الستراتيجية بهذا الصدد أو قراءتها بشكل خاطئ، فبالرغم من أن الصين تسعى لتوسيع نفوذها في العالم مقارنة بنفوذ الولايات المتحدة (وربما حتى على حسابه) فإنها لن تحاول تحقيق نصر أو غلبة على الولايات المتحدة أو أخذ موقعها في فرض هيمنتها على العالم.
أهداف الصين اكثر محدودية وواقعية من ذلك، لأن زعماءها يدركون ان الهيمنة على العالم، حتى لو كانت في منالهم (وهو ما يتشككون فيه وهذا أمر حسن) فلن يكون بالوسع إدامتها والحفاظ عليها، وانها سوف تكون عبئاً على كاهلهم اكثر منها مكسباً، عوضاً عن ذلك تبتغي بكين اسباغ الشرعية على نموذجها في إدارة الدولة والتطوير على الصعيد العالمي، بحيث يصبح بوسع هذا النموذج التواجد والتعايش بسلام بين النماذج الاخرى، بهذا سوف يرتقي مقام الصين ووزنها في وضع قواعد إدارة الدولة على صعيد العالم، اضافة الى ذلك تريد بكين التأكيد على مصداقية حكم الحزب الشيوعي للداخل الصيني وتوفر بيئة خارجية آمنة تسمح لها بالتصدي للحشد الكثيف من المتطلبات الداخلية الصعبة ذات الأولوية، لقد اعطى “كوفيد-19” بكين فرصة للتقدم نحو اهدافها جميعاً حين تتمكن من تأكيد ان نظامها كان فعالاً في لجم الفيروس داخلياً الى جانب تقديم المساعدة والمشورة خارجياً.
هذا كله أكثر من كافٍ لوضع الولايات المتحدة أمام تحدٍّ ستراتيجي لم يسبق له مثيل (حتى من دون حاجة لتصور أن الصين تريد تقويض النفوذ الأميركي في مسعى منها لحكم العالم)، لكنه مع هذا يعكس واقع التنافس الستراتيجي الذي يكتنف اجواء التنافس بين النظامين الأميركي والصيني، رداً على ذلك يجب على الولايات المتحدة أن تفعل ما كان ينبغي عليها بوضوح ان تفعله من قبل اندلاع “كوفيد-19”، وهو العودة الى الملعب الدولي والبدء بتسجيل النقاط لصالح نموذجها في ادارة الدولة والتطوير، بيد ان التأثيرات التي يتسبب بها الفيروس نفسه اصبحت اليوم عقبة أشدّ صعوبة بكثير مع الأسف، فوفق جميع المؤشرات يبدو أن الصين قد كسبت شوطاً وتقدمت وأنها الآن في المنحدر الهابط من الخط البياني تاركة وراءها اسوأ فترة من بطش الفيروس (ما لم تكن هناك موجة اخرى محتملة)، كذلك أن الصين اليوم مستودع زاخر بجميع انواع التجهيزات والخبرات الطبية، التي يحتاج اليها العالم ويطلبها بالحاح واستماتة، اما الولايات المتحدة فقد أقعدها “كوفيد-19” وقيد حركتها، وهي لا تزال في طور صعود المنحنى اقتراباً من ذروة تأثيره المدمر.
بعض جوانب الضعف في النظام هي بعينها ما أعاق الولايات المتحدة وحال دون ابدائها الاستجابة المناسبة للفيروس، الولايات المتحدة اليوم مجرد دولة اخرى من بين دول عديدة تحتاج الى المساعدة الصينية. 
يأتي رد الأميركيين على هذه المواقف محكوماً بوحي غريزي، وذلك بتوجيه الانتقادات الى بكين واستنكار انتهازيتها  ومحاولتها استغلال الموقف، كذلك يحاول الأميركيون اتخاذ خطوات معينة تصدياً للصورة، التي تحاول الصين فرضها، الى جانب تعزيزهم مساهمات واشنطن في الاستجابة لأزمة “كوفيد-19”. 
في الجانب الايجابي ربما يؤدي هذا الاسلوب، بل ينبغي له ان يؤدي، الى تحفيز روح التنافس والانسانية لدى الأميركيين حين يرون بلدهم يجاهد للنهوض بوجه تحديين في وقت واحد، أولهما الفيروس نفسه والثاني مساعي بكين لتحويل الظرف الى مكسب جيوسياسي.
من جهة اخرى قد ترتد بعض تصرفات الولايات المتحدة عليها بالضرر، مثل التمادي في لعبة القاء اللوم وتصعيدها الى حد مطالبة بكين بدفع تعويضات عن تسببها بالجائحة، والتعلل بالفيروس كذريعة اخرى لفصم العلاقة بين الاقتصادين الأميركي والصيني (لاسيما الغاء اعتماد الولايات المتحدة على الصادرات الطبية الصينية).
أي تصرف من هذا القبيل لن يكون ذا جدوى، ما لم نقل انه قد يتحول الى منبع للمشكلات.
الأهم من ذلك أن اي من اساليب التصدي التي قد تلجأ الولايات المتحدة اليها في التصدي لعناصر الحملة الصينية الحالية، يجب ألا تقف حائلاً امام الصين والولايات المتحدة من دون استغلالهما ازمة “كوفيد” كوسيلة لوقف التدهور الحاد في العلاقة بينهما، إن يكن الفيروس قد نجح في جعل العلاقات الأميركية الصينية أكثر تأزماً ووعورة فإنه قادر ايضاً على اتاحة فرصة مثالية لتنحية الخلافات جانباً واعتراف الطرفين بالفوائد الفورية والبعيدة المدى، التي يمكن أن تتحقق لهما من خلال العمل معا صوب اهداف مشتركة، في الاسبوع الماضي نشرت مجموعتان من العلماء البارزين، إحداهما صينية والأخرى أميركية، رسالتين مفتوحتين دعت من خلالهما كل مجموعة حكومتها لضم الجهود معاً والتآزر في مواجهة تحدي “كوفيد-19” والتعاون من اجل تعجيل الجهود للتخفيف من آثاره وتطوير لقاح فعال كي ينتهي الأمر بهزيمة العدو المشترك بالنيابة عن البشرية جمعاء.
لم يغير “كوفيد-19” شيئاً في أساسيات العلاقة الستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين،.
فالجغرافيا السياسية وفقدان الثقة المتبادل والتنافس بين النظامين طالما دفعت بهذين البلدين نحو المواجهة وتبادل الاتهامات، اكثر من هذا يسعى كل من الطرفين الى التمسك بمواقفه والقاء تبعة اي عوائق تنشأ على الطرف الآخر، بيد ان هذا المنحى ينطوي على شيء من اللين، فبكين وواشنطن لا يزال بوسعهما التحرك صوب خفض التوترات، بدلاً من التصعيد، وبناء طريق يفضي الى اصلاح ذات البين والعيش المشترك بسلام.
لأجل هذا يتطلب الأمر من الجانبين ان ينفتحا على فهم أدق، كل منهما لمنظور الاخر وتطلعاته، وإقرارهما بحق بعضهما في المصالح المشتركة في العالم، لاسيما في ما يخص كبح جماح “كوفيد-19”، وتقبل حقيقة أن كل منهما يحتاج الى الاخر ويعتمد عليه.
لا بدّ من العلاقات الأميركية الصينية من احتواء ذلك المزيج من المنافسة والتعاون، والآن هو الوقت المناسب لفتح القنوات الى اقصى مداها، إذا ما تحقق ذلك فإنه سيعزز لا محالة آفاق التوصل الى مخرج من التوترات الأميركية الصينية، التي كانت تسير نحو التصاعد من قبل زمن “كوفيد”.
 
* بول هير عن مجلة «ذي ناشنال إنتريست»